مقالات

بكر صدقي – الرئيس الصدفة

صرح رأس نظام الكيماوي بشار الأسد، لوسائل إعلام بلجيكية، قائلاً إن «الصدفة» هي ما جعلته رئيساً. وذلك رداً على سؤاله عما إذا كان له أن يتخيل سوريا بدون رئيس من عائلة الأسد. ولم يكشف عن كنه الصدفة المقصودة، بل أكد على أن سوريا ليست «ملكاً أو بيتاً أو مزرعة» لعائلته.

الواقع أن هذا السفاح الذي ابتلت به سوريا، فدمرها وسلم خرائبها لكل شذاذ الآفاق من روس وإيرانيين وتوابعهم، يثرثر كثيراً كلما أتاحت له وسائل الإعلام العالمية منبراً، فيرتكب زلات لسان تكشف عن هواجسه الحقيقية بلا حاجة إلى كبير عناء في التحليل. فهو يعرف أن تلك الصدفة التي قتلت أخاه الأكبر باسل، في حادث سير على طريق المطار في العام 1994، هي التي دفعت بأبيه لاختياره بديلاً عن ابنه البكر، فاستدعاه على عجل من لندن حيث كان يتخصص في طب العيون، ليقطع دراسته ويتفرغ لتخصص جديد هو وراثة عرش المملكة الأسدية في سوريا. ويمكن الاستدلال من ممارسته لدوره إلى أنه تلقى من مدربيه (يقال إن أهمهم كان ضابط المخابرات الراحل محمد ناصيف) درسين مهمين سيشكلان خريطة طريقه في السلطة: الأول هو درس حرب مطلع الثمانينات ضد التمرد العسكري للإخوان المسلمين التي توجها حافظ الأسد بتدمير مدينة حماة على رؤوس سكانها في شباط 1982، وتحولت، في تداعياتها، إلى حرب مفتوحة على كل السوريين من خلال إطلاق يد أجهزة المخابرات في التدخل بكل جوانب حياتهم.

هذا الدرس سيطبقه وريث الصدفة بحذافيره في مواجهة ثورة الشعب السلمية منذ بدايتها في آذار 2011، على كل سوريا، مقابل حصر الحرب الساخنة للأب في بضع مدن أهمها حماة وحلب. لم يعرف التلميذ الفاشل أن مواجهة مظاهرات سلمية، في مناخ ثورات الربيع العربي، تتطلب مسلكاً مختلفاً عن مواجهة مجموعات إسلامية مسلحة كحال تمرد مطلع الثمانينيات. وهذا ما دفع بنظامه الأمني إلى العمل الحثيث لتحويل الثورة السلمية إلى مسلحة، ليطيب له استنساخ النموذج الأصلي الذي «درسه» على يد مدربيه. الواقع أن هذا التحول لم يكن وليد قرار النظام وحده، بل تضافرت عوامل عدة ساعدت على اندفاع الوضع نحوه، ليس هذا المقام المناسب للتفصيل فيها.

أما الدرس الثاني فيتعلق بالدور الإقليمي للنظام الذي شهد تطبيقه الأبرز في الوصاية العسكرية الأمنية على لبنان. رعونة التلميذ «البصّيم» التي دفعت به إلى اغتيال رفيق الحريري، جعلته يفقد التُركَة اللبنانية لأبيه، بسبب فشله في قراءة تغير المزاج الأمريكي – الفرنسي حيال وصايته على لبنان الذي تبلور في قرار مجلس الأمن 1559 القاضي بخروج القوات السورية من الأراضي اللبنانية.

هي فعلاً صدفة مشؤومة تلك التي جعلت من الولد المغمور في ظل أخيه الأكبر رئيساً يملك صلاحيات غير محدودة تتيح له أن يفعل بسوريا والسوريين ما شاء له مزاجه المرضي ومركبات النقص التي يعاني منها. ليس هناك من أحد يتخيل أن وضع سوريا كان يمكن أن يكون أفضل لو أن باسلاً لم يمت في حادث السير فورث رئاسة النظام بدلاً من بشار. فهما، في النهاية، ابنان للأب نفسه والإرث الدكتاتوري الطائفي نفسه. ولكن كان من شأن ترؤس باسل أن يعفينا، على الأقل، من الأداء الإعلامي الركيك لأخيه الأصغر، فيثرثر أقل منه، وإن كان من المحتمل أن يتمكن من وأد الثورة السلمية في مطلعها، بالنظر إلى المزاج الدموي الصارم الذي عرف عنه الشبيه بمزاج أبيه.

هذه الصدفة الرهيبة دفعت بالأخ الأصغر إلى فعل كل شيء لإثبات جدارته بالمنصب الذي ورثه، ليتخلص من ظل أخيه الأكبر. لكنه سيكتشف، في كل خطوة، أنه لا يملك أي جدارة، فيسعى لتعويض ذلك بالغرق في عالم من الأكاذيب والأوهام والكثير من اللغو الفارغ أمام كاميرات الإعلام وميكروفوناته.

يعرف بشار مجاز «المزرعة العائلية» المستخدم بصورة شائعة جداً في وصف البلد الذي يحكمه. لذلك فهو لم يكتف بكلمات «الملكية والبيت» لنفي هذه التهمة عن نظامه، بل وجد نفسه يضيف، مدفوعاً بدافع قهري لا يقاوم، كلمة المزرعة نفسها في صيغة النفي: سوريا ليست مزرعة لعائلة الأسد، قالها رداً على الصحافي البلجيكي. ثم راح «يبرهن» على صحة هذا الادعاء، على مألوف عادته في التحذلق الأجوف، بالحديث عن الدستور الذي يسمح لكل سوري أن يترشح لمنصب الرئاسة. ولم يخبرنا عما إذا كان من حق كل سوري أن يتم تعديل الدستور ليتوافق مع ترشيحه، إذا كان لا يحقق الشروط المنصوص عليها في دستوره، على ما حدث من أجله «بالصدفة» في مجلس الشعب الذي أقر، خلال دقائق، تعديل السن القانونية لرئيس الجمهورية، من أربعين إلى أربعة وثلاثين عاماً.

فربما لم يكن في سوريا، في حزيران 2000 أي شخص أتم الأربعين عاماً! فاضطر المجلس لإجراء هذا التعديل الطفيف تجنباً لـ»فراغ رئاسي» كما سيحدث في الشقيقة لبنان لاحقاً. وبالحديث عن لبنان، لنا أن نتخيل الطريقة السورية المجربة في تعديل شروط الرئاسة: وذلك بتعديل الدستور اللبناني بحيث ينص في بند هذه الشروط على أن يحمل المرشح اسم ميشيل عون، منعاً لحدوث الفراغ!

الواقع أن التعليق على تصريحات بشار الأسد بات مملاً وبلا فائدة، وهو ليس الدافع لكتابة هذه السطور. بل المقصود هو الحديث عن المسؤولية الأخلاقية لوسائل الإعلام العالمية التي تقبل على نفسها بمقابلة مجرم سفاح من هذا النوع، تعرف أنه يكذب في كل جملة يتفوه بها من غير أن يحمرّ خجلاً كحال البشر الطبيعيين.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى