لا تستغربوا أبدا فكل شيء صار جائزا في هذا العالم المقلوب. ولم يعد مستحيلا ولا مستبعدا أن يصير الجنون نعمة ويتحول العقل إلى نقمة. يكفي أن نلقى نظرة على سيرة رئيسين عربيين معاصرين هما، بشار الأسد والمنصف المرزوقي حتى نتأكد من ذلك.
لقد شق الاثنان طريقين مختلفين إلى السلطة. ففيما بلغها الاول من سلم السلالة وصلها الثاني من باب الصناديق. وانتهى أمل السوريين في أن يخلصهم وريث القائد الملهم من تاريخ ثقيل من الاستبداد والتسلط، إلى خيبة كبرى تلتها سلسلة من الكوارث المريعة.
لقد كانوا يظنون أن مقامه لسنوات في لندن واطلاعه عن قرب على حياة الغربيين سوف يجعله اكثر تحررا من والده الراحل، ولكن تبين انه ازداد تصلبا وانغلاقا ورغبة بحفظ المقامات القديمة بين شعب خانع وقائد مقدس. ولم تكن آمال التونسيين في الحقوقي الذي وصل قصر قرطاج واسعة أو عريضة بفعل ما قيل عن قلة خبرته وافتقاده التجربة وضعف الخصال الشخصية. لقد صار منذ الساعات الاولى لخطابه في المجلس التأسيسي عدوا قويا اول، بعد أن اعتبر الإعلام المحلي أن تحيته إلى التونسيات «السافرات والمحجبات والمنتقبات» هي تقسيم بغيض وعدواني لهم.
كانت الطريق معبدة ومفتوحة أمام بشار وظلت الانتقادات التي وجهت له على مرّ السنوات الست الاخيرة مجرد فرقعات اعلامية في الهواء. فيما كانت اعوام المرزوقي في الحكم ملتهبة ومحفوفة بالمطبات. ولم يكن النفوذ الواسع والمطلق لحاكم دمشق ليقارن بالصلاحيات البسيطة والمحدودة لرئيس تونس المؤقت. أما الحصيلة بعد ذلك فكانت واضحة ومعلومة للجميع أو هكذا كان مفترضا. ولأن الدنيا تسير بالمقلوب فإن كثيرين في بلد ديمقراطي مثل تونس، فقدوا القدرة على رؤية الاشياء بالتجرد المطلوب، بل إن منهم من صار مستعدا لإنكار أي شيء ومفتخرا بالتسابق للسفر إلى دمشق لا للاشتراك في التحقيق في جرائم النظام، بل لتهنئة القائد الخالد بصموده الاسطوري أمام قوى الشر، ووقوفه بوجه المؤامرة الكونية التي لم يكن هدفها القضاء على نظامه المحبوب بقدر ما كانت غايتها الاولى والاخيرة تفتيت بلده وتقطيع أوصاله. قد يفسر البعض ذلك بانه امر عادي وطبيعي فمن حق هؤلاء أن يعبروا عن مواقفهم وآرائهم وان تنقل قنوات التلفزيون تلك الوقفات التي يحضرها عشرات دعما لبطولات بشار وجيشه العربي السوري.
ولكن المشكل يتعدى مجرد التعبير عن الولع بالديكتاتور السوري إلى قلب الحقائق والادوار، وتقديم بشار على انه الرئيس العاقل الذي استطاع إنقاذ بلده من هجمة اممية كبرى، مقابل الاصرار على وصف رئيس تونس السابق بالمجنون، لمجرد انه اعلن مرارا رفضه جنون بشار، وارتكب هفوات وزلات تاريخية ربما كان اشهرها على الاطلاق قراره طرد السفير السوري المعتمد في تونس.
إن المنطق الذي يحرك من يتبنون تلك الافكار هو أن بلادنا اولى بنا وانه ليس هناك من داع أو مبرر للحماس الزائد لثورة مسلحة ضد نظام شرعي في بلد يبعد عنا الاف الكيلومترات، وأن الوقوف في صف بشار بغض النظر عن كل الجرائم الخطيرة التي ارتكبها في حق شعبه هو امر واجب. ألم يقل ديفيد كاميرون حين كان رئيس وزراء اعرق ديمقراطية في العالم «عندما يتعلق الامر بالأمن القومي فلا يحدثني احد عن حقوق الانسان». اذن لماذا ننزعج لانتهاكات وجرائم بشار مادام يدافع عن امنه القومي، ومادمنا نخوض المعركة ذاتها ضد الارهابيين؟ ولماذا نطرد سفيره وهو لم يرتكب اي فعل ضدنا؟ إن كل من لا يصادق على ذلك ويقول إنه لا وجود لأي مبرر يجعل الحاكم يدوس على حقوق الناس وينكل بهم، وإن الدولة لا يمكنها أن تسمح لنفسها بالتعامل مع من تراهم ارهابيين بأسلوب العصابات وقطاع الطرق، بل فقط بتطبيق القوانين وإرساء العدالة، فلا مكان له الا في الصفوف الخلفية، لأن العقل الاستبدادي يرى كل من يناقش مقرراته «إما خائنا أو مجنونا» مثلما قال المرزوقي في مقابلة، أجرتها معه قبل ايام فضائية الشرق»، ولاجل ذلك فان كل اساليب التشويه والتزوير تصبح جائزة ومسموحة مادامت تؤدي غرضها الاساسي في تشويش الصورة وتعميتها.
لكن لنبحث عن الخيط الرفيع الذي جعل قسما واسعا من التونسيين لا يصدقون المرزوقي، وهو يدافع عن حقوق الانسان في سوريا، ويقتنعون بالمقابل بدفاع بشار عن بلده في وجه المؤامرة الكونية؟ لماذا نجح بشار فيما عجز عنه المرزوقي واستطاع ايهام التونسيين بعدالة ورجاحة مواقفه وقراراته؟ إن التفسير الفوري لذلك هو انه نجح في صناعة الكثير من القصص الاسطورية التي قلبت موازين القوى وتركت اثرا على الجمهور المحلي، واشهرها قصص جهاد النكاح واستطاع أن يجعل تلك القصص تحتل مساحات واسعة داخل آلة اعلامية محلية معطوبة ومنكفئة على ذاتها، لم تتخلص بعد من رواسب الاستبداد وبصماته، وكانت المهنية وحقوق الانسان اخر اهتماماتها. غير أن ذلك قد لا يعكس سوى جزء من اللوحة، أما الجزء الباقي فهو أن المسار الذي اخذته تونس بعد اختفاء رئيسها المخلوع بن علي افتقد الوسائل والادوات لإقناع معظم الناس بقيمة حرية حصلوا عليها من دون أن يبذلوا في سبيلها ولو قطرة عرق واحدة. لقد عاشوا ما يشبه الغيبوبة التي جعلتهم يغرقون في موجة من الطلبات، وأغرتهم اللعبة إلى الحد الذي صار فيه الجميع يطلب من الجميع. أما الفرملة الوحيدة التي حصلت لحالة الجموح تلك فقد كانت أصوات الرصاص والتفجيرات التي لم يألفها التونسيون بكثرة في عهد الاستبداد. انها هي التي اطلقت أذرع الإعلام واصوات بعض السياسيين المتربصين، حتى يعلنوا فزعهم وخوفهم على البلد ويقولوا أن كاميرون كان صادقا في مقولته الاثيرة، وأن بشار لم يكن كاذبا ومذنبا حين حارب الجماعات التكفيرية والارهابية التي هاجمتنا، والتي قد تعود مرة اخرى من سوريا لتهاجمنا من جديد.
لقد فهموا عجز المرزوقي عن ضربهم بيد من حديد مثلما فعل بشار على انه ضعف ووهن وتواطؤ معهم، ومع حركة النهضة التي كانت وبقيت المتهم الاول والمباشر في كل السوءات التي ظهرت في تونس. وربما دفع الرئيس التونسي السابق غاليا ثمن قبوله الاشتراك مع الاسلاميين في السلطة. فلم يغفر له من سموا انفسهم حداثيين تلك الخطوة واعتبروها ضربة موجعة ومستفزة لهم. وحاولوا مرات ومرات أن يقطعوا اوصال الترويكا ويضعوا حدا لائتلاف طالما وصفوه بغير الطبيعي. ولان التعدد بنظرهم بدعة والديمقراطية التي يتغنون بها ضلالة، فإن شخصا مثل بشار صار باستطاعته أن يحوز المواصفات المثالية التي تجعله يصبح مثلا وقدوة للتجربة التونسية اليافعة.
وربما لن يكون غريبا في تلك الحالة أن تتعالى الاصوات للمطالبة بإقامة تمثال للقائد البطل الذي قاوم الارهاب، مثلما تعالت اصوات اقل من عشرين نفرا قبل ايام لطرد المرزوقي من تونس، وسحب الجنسية منه. ألم اقل لكم منذ البداية أن كل شيء صار ممكنا وجائزا في هذا العالم المقلوب.
المصدر : القدس العربي