بدأ في جنيف اللقاء التفاوضي السوري الرابع، في أعقاب محاولة جديدة لوقف إطلاق النار في سورية، أفشلها عجز روسيا عن “إقناع” إيران والنظام ومرتزقتهما بقبوله والالتزام به، أو ميلها إلى الضغط على الفصائل، ولإجبارها على تقديم تنازلات جديدة، بموافقة تركية، أو من خلال تهديدها باستخدام القوة ضدها، وتدمير ما بقي منها بعد حلب، وهو ليس كثيراً، وباستغلال انقسامها الأخير الكبير الذي شطرها إلى نصفين متعاديين، أضعف مواقفها ومواقعها في معقلها الأخير: إدلب ومحافظتها، حيث تسيطر جبهة النصرة تحت اسمها الجديد “هيئة تحرير الشام”، وتعلن جهارا نهارا أنها لن تتساهل مع من يفاوضون الروس أو يتلقون دعما من الأميركيين، وسبق لها أن هاجمت بالفعل وطردت من منطقة إدلب ست فصائل صغيرة ومتوسطة الحجم بإحدى التهمتين.
لم يتوقف إطلاق النار، والسبب وجود نص في اتفاقيته تسمح للأسد وإيران بمواصلة الحرب، بمجرد ادعائهما أنهما يحاربان الإرهاب، كما فعلا في سوق وادي بردى، حيث لم يوقفا الحرب بحجة وجود مقاتلين من “النصرة”، ومع أن الروس نفوا ذلك، فإنهم إما وقفوا عاجزين، أو عزفوا عن فرض الالتزام بالهدنة التي وصفوها بالشاملة، وكانوا عرّابها، بيد أنهم لم يلتزموا بها بعقد إقرارها البارحة، وهم اليوم الطرف الرئيس الذي يقصف مدينة درعا وضواحيها، على الرغم من أن الطرف المقصوف ينتمي إلى “الفصائل المعتدلة”، أي الجيش الحر، والنظام هو الذي بدأ الهجمات، ولو نجح فيها لغيّر الوضع على الأرض، تغييرا جوهريا، كان سيعيده إلي المعابر الحدودية مع الأردن، وسيمكّنه من حصر الجيش الحر بين قواته وجماعات “داعش” في وادي اليرموك.
لم يمنع إفشال النظام وإيران لوقف إطلاق النار، وانتشار مرتزقة حزب الله في جنوب سورية واشتراكهم في الهجوم على درعا ومنطقتها، وإفشال روسيا محادثات أستانة الثانية، وبالتنكّر لتعهدات سابقة، عبر اقتراحها خطة مراقبة لوقف إطلاق النار، ترفض ما تقدمت به الفصائل المشاركة في المحادثات التي اعتبرته التفافا على التزاماتٍ روسية، كانت قد قطعت لها، ومحاولة للتلاعب بوقف إطلاق النار، ولاستخدامه أداة للضغط على مقاتلي المعارضة الذين تقيّدوا به، بدل الضغط على قوات النظام وإيران التي لم تحترمه دقيقة واحدة.
هذا ما يمكن قوله على صعيد العلاقة بين الروس ووقف إطلاق نار، اعتبروه إسهامهم في فتح طريق جنيف وتذليل عقباته، بل وإنجاحه، شريطة إقناع الوفود المفاوضة عموما ووفد الهيئة العليا خصوصا بأحد أمرين: قبول دستورهم، وإن مع ملاحظة هنا وملاحظة هناك، وقبول خطة التفاوض التي أدخلوها إلى قرار مجلس الأمن 2254، وتنص على حصر التفاوض بتشكيل حكومة غير طائفية (وإن شكلها وقادها الطائفي الأكبر بشار الأسد)، وإصدار دستور، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بإشراف الأمم المتحدة.
بما أن وثيقة جنيف جعلت الانتقال السياسي جوهر الحل، بينما جعل قرار مجلس الأمن 2118 تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية ذات الصلاحيات الكاملة بداية الحل وأداة هذا الانتقال، فإن بشار الأسد لن يبقى خلال المرحلة الانتقالية، لسبب واضح هو أن الهيئة هي التي ستمارس صلاحيات الرئاسة ودورها، وسترسله بالتالي إلى مكانٍ ينتظر فيه محاكمته بوصفه مجرما، ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لذلك، لن يكون الانتقال ومصير بشار موضوع نقاش في مفاوضات جنيف 4 التي ستنصب على تطبيق القرار 2254، وما ينص عليه من مهام، كتشكيل حكومة موسعة وغير طائفية مرجعيتها بشار إياه، بما أنه هو الذي سيشكلها وسيشرف على عملها، بينما مرجعية “الهيئة الحاكمة الانتقالية” القرار الدولي رقم 2118، وليس من سيرحل عن منصبه بمجرد تشكيلها، السفاح بشار الأسد.
هذا الفارق بين الوثيقتين الدوليتين اللتين صاغت الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن أولاهما، وقبل العالم الصياغة الروسية لثانيتهما، يجبرنا على القول إن التفاوض، إذا ما حصل فعلا سيكون ضربا من العبث، والسبب قيامه على مبدأ يسلب السوريين حقوقا أعطتهم إياها وثيقة جنيف 1، وقرارات دولية كثيرة وافق عليها الخمس الكبار بالإجماع. لذلك اعتبرت موافقتهم ضمانةً دوليةً لحقهم في التخلص من الأسد ونظامه، وفي بناء نظام ديمقراطي بديل. غير أن القرار 2254 ذهب في اتجاه مغاير لهذا الاتجاه، وتجاهل إرادة الشعب السوري وقرارات المجتمع الدولي والمهام المحددة بدقة في وثيقة جنيف 1 للشرعية الدولية وممثلها الأممي، ستيفان دي ميستورا، الذي يساير اليوم الروس، ويضرب عرض الحائط بجنيف 1 والقرار 2118، مع أنه بدأ مهمته لتنفيذهما حصرا، بما أن القرار 2254 لم يكن موجودا عندما باشر عمله ممثلاً للأمين العام، مكلفا بإيجاد حل للصراع في سورية، يطبق الوثيقة والقرار 2118 تحديدا وبالاسم.
الانتقال السياسي
والآن: كيف نفسر أن دي ميستورا أكد مرات عديدة أن “الانتقال السياسي” هو موضوع الحل الوحيد الذي سيكون محل تفاوضٍ بين المعارضة والسلطة، لكنه “نسي” ذلك، في دعوته التي وجهها، أخيرا، إلى من سيحضرون جنيف 4، وركّز على ما يطالب به الروس: حكومة بشارية بدل هيئة جنيف الحاكمة الانتقالية، واستمرار رئاسة بشار بدل الانتقال إلى الديمقراطية، مع أن وثيقة جنيف جعلته هدف التفاوض ونتيجته الحتمية! هل يعتقد الروس ودي ميستورا أن هذه المخالفات للقرارات الدولية التي تلقي بالحقوق المعترف بها لشعب سورية في سلة المهملات ستفضي إلى حل سياسي، يتفق مع النتائج التي يريدون فرضها علينا، أم أنها ستأخذنا إلى حرب شاملة، ستضع الفصائل أمام أحد خيارين: القضاء التام والناجز عليها، أو التنازل عن حقوق الشعب المقرّرة في وثيقة جنيف والقرارات الدولية التي تحدّد آليات تحقيقها، والقبول، عوضا عن ذلك، بحكومة بشار ودستور موسكو وانتخابات برلمانية ورئاسية، يجدّد فيها لنفسه فترتين جديدتين، مدتهما 14 عاما، حسب نص الدستور المقترح روسيا العتيد، وهو ما يطرح السؤال: إذا كان قد دمر ما بين 60% و70% من شعب سورية وعمرانها خلال ستة أعوام، فمن أين سيأتيه الروس والإيرانيون ببشر يقتلهم وعمران يدمره خلال الأربعة عشر عاما؟ وهل سيبقى بعد فترة حكمه الجديدة شيء اسمه سورية؟
إذا قفز مفاوضو الهيئة العليا من فوق هذا التعارض الجذري بين وثيقة جنيف والقرار 2118 وبين القرار 2254، وقبلوا حكومة غير طائفية، يشكلها ويرأس أعمالها الطائفي الذي قتل الملايين من شعبه، فهل سيقبلون دستورا يلغي الديمقراطية، هدف جنيف الحتمي، ويستبدلها بتركيبةٍ سياسيةٍ شديدة التعقيد، مليئة بالتناقض وقابلة للتفجير عن قرب وعن بعد، تعطي الدولة السورية ما قد يفيض عن الجماعات الهوياتية التي ستتمتع بحكم ذاتي شبه مستقل، لن يترك أي مجال لتعامل الدولة كمركز بندية معها؟ المعروف أن الدولة الديمقراطية تبنى على المواطنة المتساوية، وأنها هي التي تعطي مكوناتها حقوقها كاملة. أما في الدستور الروسي، فستبنى الدولة على ما يفيض عن مكوناتها من صلاحيات، وليس هناك أي ذكر حتى لكلمة ديمقراطية، ناهيك عن ذكر مرتكزاتها التي ستخترق، بالضرورة، جميع تشكيلاتها، بغض النظر عن أسمائها. إلى هذا، لا يترك الدستور للسوريين أي حق في اختيار نمط دولتهم، وأية مشاركة في تحديد هويتها، فإن وافقوا في استفتاء عام، كما هو متوقع، على الدستور الروسي، كانت موافقتهم تعني قبولهم انفراط عقد دولتهم، وقيام دولة هويات متصارعة، ستحاول كل واحدةٍ منها توسيع صلاحياتها ومناطق نفوذها إلى الحدّ الذي يخرجنا من تحت الدلف إلى تحت المزراب، أي من نظام متوحش يخنق مواطنيه ويتنكّر لحقوق مكونات الجماعة الوطنية السورية إلى نظام تتحكم فيه الأطراف بالمركز، والدويلات الهوياتية بالدولة التي يريد الشعب لها أن تكون ديمقراطية، لكن الدستور يقرّر إنقاذ النظام الرئاسي، ويعطي الرئيس صلاحيات قريبة من صلاحيات الأسد الحالية. ويبذل، في المقابل، جهودا مستميتة، صريحة ومضمرة، لمنع قيام مؤسسات دولية فاعلة وقوية إلى جانبه، يمكن لصلاحياتها أن توازن صلاحياته أو تحد من طابعها المطلق، ليكون هناك في سورية القادمة دولة وحياة عامة وحريات.
الانتخابات البرلمانية والرئاسية
أما عن الانتخابات البرلمانية والرئاسية تحت إشراف الأمم المتحدة، فثمة ملاحظتان:
أولاهما أن الهدن التي تعقد في كل مكان، بفضل قنابل المدافع وصواريخ الطائرات، تتكفل باعادة جزء مهم من الحاضنة الشعبية إلى العيش تحت حكم المخابرات التي تبدأ، فور استسلام المناطق، بترويع الشباب واعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم، وتخترق ضعاف النفوس من المواطنين، وتجدّد التعاون مع عملائها للوشاية بالأهالي وإفسادهم، ولإرعابهم إلى الحد الذي يجعل منهم أداة طيعة في يدها كسلطة متوحشة تخوفهم وتتلاعب بهم، وتلوح لهم بسلاح قمعي فتاك، هو ملاحقتهم ومحاسبتهم عن الفترة الثورية التي خرجوا خلالها من حكم الأسدية، وتخص بالتلويح الشبان والشابات من أبناء المواطنين وبناتهم. هل يصدق أحد أن الأمم المتحدة ستتيح أجواء حماية تمكّن هؤلاء من التعبير الحر عن رأيهم، وهي التي تفرّجت على محاصرتهم وتجويعهم، وهل ستتمكن من حماية من قد يفوز في انتخابات الرئاسة ضد بشار الأسد من أجهزة القمع والعسكريتاريا الطائفية المسعورة التي قتلت وجرحت وشوهت واعتقلت وعذبت، وأخفت قرابة ثلاثة ملايين مواطنة ومواطن سوري وفلسطيني، من دون أن تتمكن الأمم المتحدة، والصحيح المنتحرة، من عقد اجتماع رسمي واحد لمناقشة هذا الموضوع، أو أن تصدر قرارا واحدا يلزمها بكف يد مجرمي النظام عن السوريات والسوريين؟
ثانيتهما أن الأمم المتحدة تتعاون بصورة مفتوحة مع النظام السوري، كأنه لا يقتل شعبه، ولا يخالف القانون الدولي، وليس نظاما مارقا. وهي تمدّه بجميع أنواع المساعدات التي تمكّنه من تزويد شبيحته بفيضٍ من الطعام والدواء، بينما وقفت متفرجةً على حرمان النظام السوريين الجياع من حقهم في البقاء أحياء، من دون أن تسحب اعترافها به ممثلا رسميا للشعب الذي يذبحه. وهي توظف اليوم من يرضى عنهم ضباط أمنه الذين يمنحونهم موافقاتٍ على تشغيلهم لدى الأمم المتحدة، مقابل ابتزازهم وتجنيدهم ضد المواطنين الذين يدخلون إلى مناطقهم باسم الشرعية الدولية! هناك فضائح تستحق فتح تحقيق مسهب حولها، ثم تقديم شكوى إلى محكمة العدل الدولية ضد مؤسسات الأمم المتحدة العاملة في خدمة النظام داخل سورية وخارجها. ثم ماذا أبقى النظام الدولي الذي مثله فلاديمير بوتين وباراك أوباما من الأمم المتحدة ودورها وقيمها ومؤسساتها، وبماذا يعد ترامب بغير مزيد من تهميشها وإضعافها؟ لو كان قد بقي منها شيء لرأيناه، ولو مرة واحدة طوال سنوات المجازر الست في سورية، التي ارتكبها نظامٌ سفاح، يرتكب جرائمه تحت سمع أمم متحدة وبصرها، تدعمه بالغذاء والدواء والعملاء، وتساعده على تهجير السوريين من مناطق عيشهم التاريخية، كما فعلت في حمص وأماكن كثيرة.
السؤال الآن: هل ستتمكن أمم متحدة، يعمل قسم كبير من موظفيها مخبرين لدى أجهزة القمع الأسدية، وتعاني من التهميش والعجز، أن تشرف على انتخابات نزيهة في سورية، تحوم فوق مراكزها طائرات روسيا، وتتجول في أروقتها فصائل الحرس الثوري الإيراني، وتسهر على نزاهتها جيوش الشبيحة الأسدية ومرتزقة لبنان وأفغانستان وبنغلادش وتونس وأوزبكستان… إلخ، ويطلب فيها إلى شعب ممزق مشرد مجوّع محاصر معذب مقتول أن يغامر بحياته وحياة أولاده ويصوت ضد بشار الأسد الذي قرّر سادة النظام الدولي الإبقاء عليه رئيسا لشعبٍ فعل به ما سبق ذكر بعضه، على الرغم من مخالفتهم قرارات سابقة، كان قد اتخذها مجلس الأمن والهيئة العامة للأمم المتحدة، تحتم إبعاده؟ على من يضحك الروس، وعلى أية انتخابات نزيهة سيشرف دي ميستورا، إذا كان دستور روسيا وطيرانها للشعب بالمرصاد، وكانت الأمم المتحدة تسهم في الحرب الكونية عليه داخل وطنه، وتسعد بوجوده في مخيمات العار خارجه، وكان العالم قد ثبت الأسد في منصبه ضد إرادة الشعب السوري؟
يقول المثل الشعبي: معك فرنك بتسوى فرنك. ويقول العقل السياسي الصاحي: لا أحد يعطيك ما لا تستطيع انتزاعه منه، بطرق أخرى. قاتل الله الجهل والتهاون في حقوق الشعب وحريته.
المصدر : العربي الجديد