أعلن المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا، منذ البداية، عن تشاؤمه بشأن الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف بسبب غياب التوافق الأمريكي ـ الروسي. الواقع أن سبب غياب هذا التوافق هو عدم تبلور سياسة أمريكية، إلى الآن، في الموضوع السوري. بدلاً من ذلك هناك أولوية لدى الإدارة الأمريكية الجديدة، باتت واضحة، بشأن محاربة تنظيم «الدولة» الإسلامية (داعش) في العراق وسوريا من جهة، وتحجيم التمدد الإيراني عبر الإقليم من جهة ثانية. تحت هذين العنوانين العريضين هناك تفاصيل كثيرة متشابكة الخيوط تحتاج إلى وضع استراتيجية متكاملة بشأنها، من المرجح أنها ستغير، إلى حد كبير، استراتيجية الإدارة السابقة.
كانت زيارة وزير الخارجية السعودي المفاجئة للعراق من أهم وجوه تلقف القوى الإقليمية للسياسة الأمريكية الجديدة قيد التبلور. فالعراق الذي تركته إدارة أوباما مباحاً للنفوذ الإيراني، أصبح يملك خيارات الموازنة بينه وبين نفوذ عربي مدعوم أمريكيا. صحيح أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ينتمي، مثله مثل سلفه نوري المالكي، إلى تيار سياسي محسوب على إيران، لكن تبقى بوصلة الطبقة السياسية العراقية، بما فيها الكتل الشيعية، مشدودة إلى واشنطن. والآن بعدما وصل قتال «داعش» إلى داخل مدينة الموصل، بات السؤال عما بعد «داعش» هو الذي يشغل جميع القوى الفاعلة في العراق. فإذا كانت واشنطن هي البوصلة لدى الحكومة العراقية، فهذا يعني رسم سياسات ما بعد تحرير الموصل بما لا يتعارض مع التصعيد الأمريكي إزاء النفوذ الإيراني. وهو ما يتطلب عودة الموصل إلى أهلها السنة، وتحجيم دور الحشد الشعبي لمصلحة الجيش العراقي المركزي، وتفاهماً إيجابياً مع إقليم كردستان.
أما في الإقليم السوري لـ»دولة الخلافة» فمعركة تحرير الرقة هي العنوان الذي تدور حوله التجاذبات السياسية. وهنا نرى إشارات أمريكية متناقضة بشأن الحليف المحلي الذي ستعتمده واشنطن في محاربة «داعش»: تركيا أم حزب الاتحاد الديموقراطي؟ فمن جهة أولى لدينا زيارة رئيس هيئة الأركان الأمريكية إلى أنقرة وقاعدة إنجرلك الجوية، والاجتماع المطول بين رئيس الوزراء التركي ونائب الرئيس الأمريكي مايكل بنس في بون، وكان موضوع معركة الرقة وتعقيداتها على رأس المباحثات في المناسبتين. ولدينا، من جهة ثانية، زيارة النائب الجمهوري جون ماكين إلى كوباني ولقائه بقادة «الاتحاد الديموقراطي» وجناحه العسكري «وحدات حماية الشعب» ومظلته العسكرية المسماة «قوات سوريا الديموقراطية». قدم الأتراك لحليفهم الأمريكي مغريات مرفقة باقتراحات: اشتباك لفظي حاد مع إيران، وخطتان للاختيار بينهما بشأن المشاركة التركية في تحرير الرقة بشرط استبعاد «قوات سوريا الديموقراطية» من العملية.
وتنطوي الخطتان على مخاطر الاشتباك مع القوات الحليفة لنظام دمشق الكيميائي، في الخطة الأولى، ومع وحدات حماية الشعب وحلفائها في الخطة الثانية التي تقترح الدخول من تل أبيض باتجاه الرقة. لا يمكن لواشنطن أن تجمع القوات التركية والكردية في عملية عسكرية واحدة، ولا بد لها من المفاضلة بينهما. كما أن التوجه من الباب، وفقاً للخطة الأولى، قد يشكل نقطة تفارق تركية مع موسكو المؤيدة لنظام دمشق. وهكذا تجد تركيا نفسها، مجدداً، في وضع لا تحسد عليه، بعدما تنفست الصعداء بانتهاء ولاية أوباما. فلا روسيا متفهمة للهواجس التركية، ولا الإدارة الأمريكية الجديدة بعد السابقة.
من جهة ثانية، ما زالت السياسة التي يمكن أن تتبعها إدارة ترامب إزاء روسيا غير واضحة المعالم، وهي ما من شأنها أن ترسم ملامح السياسة الأمريكية في الموضوع السوري نفسه. موسكو التي تفاقم قلقها بعد إقالة مايكل فلين من موقع مستشار الأمن القومي، لم تعد واثقة من قدرتها على تحويل إنجازاتها العسكرية لمصلحة النظام الكيميائي في سوريا إلى إنجاز سياسي في الإستانة وجنيف، من وراء ظهر الأمريكيين، عادت إلى شن الغارات الجوية على مواقع الفصائل المعارضة، جنباً إلى جنب مع طيران النظام. وهو ما يعني إجهاض وقف إطلاق النار الهش أصلاً بيديها بالذات، وليس فقط بيدي إيران وتابعه السوري.
على هذه الخلفية من التطورات الميدانية والتجاذبات السياسية الإقليمية وسيطرة اللايقين بسبب عدم تبلور سياسة أمريكية متكاملة في الموضوع السوري، تدور مباحثات جنيف بصورة باهتة وبلا أي أفق غير الفشل الذي تمتنع الأطراف المشاركة عن إعلانه. وبعيداً عن جدول الأعمال «الطموح» الذي حاول ديمستورا فرضه على المتفاوضين (قضايا الحكم والدستور والانتخابات)، يبدو الإنجاز الوحيد الذي يتطلع المبعوث الأممي إلى تحقيقه في هذه الجولة هو فرض «مدونة سلوك» على الوفود السورية (النظام والمعارضة والمنصات) تتضمن التأدب في الكلام والحفاظ على سرية المباحثات وإبعاد الهواتف الخلوية عن قاعة الاجتماعات! من المشكوك فيه أن ينجح ديمستورا حتى في فرض هذه المدونة، على الأقل على بشار الجعفري ووفده. فهو الوحيد في مباحثات جنيف الذي لا يشعر بأي قلق، فيتصرف على مألوف وقاحته، لأنه ليست لديه أية مخاوف على أمور بعيدة عن اهتماماته كالكرامة أو السيادة أو هيبة «الدولة» التي يزعم تمثيلها وسمعتها.
المصدر : القدس العربي