مقالات

ياسين الحاج صالح – «سورية، الدولة المتوحشة»: الكتابة ضد الاختزال

لا تقتصر أهمية كتاب ميشال سورا «سورية، الدولة المتوحشة» على اقتراحات مفهومية ونظرية تستصلح نظرية ابن خلدون في العصبية والدعوة والمِلْك لشرح تكوين النظام الحاكم في سورية في النصف الأول لحقبة حافظ الأسد، ولا على انحياز سياسي إلى جانب المناضلين ضد الحكم الأسدي يكثّفه عنوان الكتاب ذاته ويبسط مضمونه، وإنما تتعداهما إلى ما أورده المؤلف الفرنسي من تفاصيل موثّقة عن الجولة الأولى من الصراع السوري (1979-1982)، قلما يجد المرء مثلها في أي كتاب آخر.

من هو من جيل كاتب هذه السطور، ربما تنتعش ذاكرته بما يورده المثقف المستعرب الفرنسي من وقائع كثيرة، لا تتوافر في شأنها مصادر أخرى معروفة. الكتاب يعيد تثبيت ما يكاد يتلاشى من الذاكرة بفعل الزمن، ويحيل فوق ذلك إلى ما كان متعذراً على أكثر مجايلي الحوادث الإحاطة به، بخاصة مواقف وسائل الإعلام الغربية، و»جو التحجر الفكري» الذي كانت ترعاه هذه الوسائل. من ذلك التحذير من خميني سوري، وهو إعلاء لهواجس الغرب بما يحول دون الاهتمام بما يجري للسوريين. ومن ذلك ايضاً تفسير أرنست غلنر للعنف بمقتضيات البناء الوطني. سورا يعلق باقتضاب: «نحن لا نعتقد من جهتنا أن مأساة حماة [1982] قد ساهمت بأي شكل من الأشكال في بناء سورية الجديدة، بل على العكس، إذ يكفي أن ننطق باسم المدينة في أي حوار كان حتى ندرك أن نهر العنف يشق البلد مثل النهار المفتوح». كان هذا قبل سنين طويلة من أن يكف أي كان عن تداول حجج الحداثة والبناء الوطني لتفسير بربرية الحكم الأسدي.

في مواجـــهة «الدولة البربرية» (عنوان الكتاب بالفرنسية)، و»التحجر الفكري» هـــذا، عـــمل ميشال سورا على تطوير أدوات فكــــرية أكثر ملاءمة كواجب معرفي وأخلاقي فــــي الوقت نفسه. «شهداء حماة ينادوننا ويسائلوننا»، كتب في مطلع كتابه.

لم يكتب بعد تاريخ الموجة الأولى من الصراع ضد الدولة الأسدية، وقد يتعذر كتابته من دون طي صفحة هذه الدولة والاطلاع على أرشيفاتها. لكن كتاب «الدولة المتوحشة» يوفر وقائع وتفاصيل مهمة من أجل هذا التاريخ. مثلاً مؤتمر حزب البعث عام 1979 ودور رفعت الأسد فيه، خطب حافظ الأسد أثناء الصراع وتصريحات رجاله وقتها، نسب مشاركة السكان في انتخابات مجلس الشعب، وهي لم تتجاوز 4 في المئة في 1977 و1982، القبول الاستثنائي لطلاب في كليات لا تؤهلهم درجاتهم الوصول إليها بسبب حملهم السلاح دفاعاً عن النظام، وتبرير حافظ الأســـد ذلك: «يتصدون لمؤامرات الامبريالية والرجعية، وليس لديهم الوقت الكافـــي للدراسة»، «قصر الشعب» الذي يعلو دمشق وكلــف بليوني ليرة سورية (نحو 450 مليون دولار أميركي بأسعار صرف تلك الأيام)، أي ما يعادل نصف المـساعدات السنوية لسورية التي كانت تدفعـــها دول الخليج وقتها، وموازنة وزارة الإعـلام التي تتجــــاوز بعشـــرين ضعفاً موازنة التـــربية. لا مجـــال لذكر التفاصيل الوفيرة فـــي الكتـــب، لكنها تؤهله لأن يكــــون مرجعاً أساســـياً لــدراســـة أصـول دولة الأسديين.

يوفر الكتاب أيضاً معطيات حدثية دالة على تنامي التمركز الأمني للنظام وقتها. ففي زيارة له إلى دمشق عام 1980، دعا صادق قطب زادة، وزير الخارجية الإيراني وقتها، عدداً من كبار رجال الدولة (يسميهم سورا «المماليك الجدد») إلى الغداء في مطعم دمشقي، وكان بينهم عبد الحليم خدام وزير الخارجية، وأحمد اسكندر أحمد وزير الإعلام، ورؤساء أفرع المخابرات. كان هناك تسعـــــة أشخاص علــى الطاولة، لكن حوصر الحــي الذي يقع فيه المطعم بـ 300 عنصر مسلح من حرس هؤلاء الرجال المهمين، وخلا تماماً من المارة. وكان لفاضل الأنصاري، مدير دار البعث للصحافة وقتها، 25 حارساً شخصياً. ولا يترك سورا لبساً حول الترابط الوثيق بين الأمني والطائفي.

يغطي الكتاب أيضاً الوقائع الدامية لموجة الصراع السابقة. مجزرة مدرسة المدفعية التي أوقعت 83 طالب ضابط علوياً على يد طائفيين إسلاميين سنيين في حزيران (يونيو) 1979، يلون سورا المشهد بعض الشيء بالقول إنه بين 320، هو عدد طلاب المدرسة وقتها، كان 260 ينحدرون من منبت علوي. يتناول أيضاً مجازر جسر الشغور وحلب وتدمر التي يقول إن الضحايا فيها كانوا بين 500 و700، لكن يذكر أيضاً أن تقريراً أمنياً مسرباً عن المذبحة يذكر أنه جرى حذف 1181 اسماً من قيود السجن بعد المجزرة. يذكّر الكتاب أيضاً بمذبحة مبكرة في حماة في مطلع أيار (مايو) 1981، وقع ضحيتها بين 200 و500 ضحية، رمياً بالرصاص أو عبر إعدامات جماعية في الشوارع، وذبح أناس في بيوتهم، وفي اليوم نفسه كان وفد من عمال حماه يمرون مثل غيرهم في طابور أمام منزل حافظ الأسد، يُحيّونه في عيد العمال. هذه المجزرة كسفتها أختها الكبرى في شباط (فبراير) 1982. وفي شأنها يورد المؤلف مرتين تقديرات لعدد القتلى تتراوح بين 7000 و15000، لكنه في سياق آخر يذكر أن تقريراً لمنظمة العفو الدولية صدر في خريف 1983 يقدر عدد الضحايا بما بين 10 و25 ألفاً.

يوضح سورا بصورة كافية جداً أن لوحة الصراع في سورية وقتها لا ترتد إلى مواجهة بين النظام والإسلاميين، على ما ثابر النظام على فعله، وعلى ما يفضل الإسلاميون أيضاً. ويتكلم على دور النقابات المهنية (التي جرى حلها لاحقاً عقاباً على بياناتها الداعية إلى حكم القانون والديموقراطية)، واحتجاجات عمالية ومعارضة يسارية وقومية ونشاط طالبي في الجامعة (تغيب من الكتاب أية معلومات عن جامعة حلب، وكانت ناشطة بقوة وقتها)، ويدعم ما يقوله بمعطيات موثقة وتفاصيل.
وبينما يرفض سورا التعامي عن الطائفية، فإنه يدرجها في معطيات تاريخية واجتماعية وسياسية وإيديولوجية وفيرة تشرح عملية بناء عصبية للسلطة و «ملك طبيعي» كمحرك لها. سورا لم يعش ليرى كيف صدّقت الأيام تقديراته حول الملك الطبيعي والعصبية، وكيف تحولت سورية إلى ملك وراثي في الأسرة الأسدية. جرى اغتياله على يد وكلاء الملك الطبيعي في لبنان وهو في الثامنة والثلاثين.

وليس رفض اختزال الصراع إلى صراع بين الدولة وإسلاميين مهماً فقط من باب التأريخ لتلك الجولة من الصراع من أجل التغير السياسي في سورية، ولكن كذلك لمقاومة الاختزالية في النظر إلى الجولة الراهنة من الصراع اليوم. هناك أيضاً ميل إلى رده إلى صراع بين «الدولة» وإسلاميين، وهو نهج النظام المفضل، ونهج الإسلاميين المعنيين أنفسهم، ولكنه كذلك نهج المؤسسات الإعلامية الغربية التي تثابر على نشر «جو التحجر الفكري» نفسه الذي تكلم عليه الفرنسي المأسوف على شبابه.
رفض هذه الاختزالية ليس التزاماً معرفياً فقط، ولكنه التزام سياسي أيضاً من حيث أن الديموقراطية مضادة للاختزال وحليفة لإحاطات معرفية موسعة (توافقت مع ظهور وتطور العلوم الاجتماعية). الاختزالية في المقـــابل التزام ثابت من جهة الدولة الأسدية التي لا تشيع هذه النظرة إعلامياً ودعائياً فقط، وإنما كذلك تعمل عل صنع الوقائع التي لا تبقي غير الإسلاميين قبالتها. ويساعدها في ذلك حشد من «أسدولوجيين»، عمال الطاعة الأيديولوجيين في خدمة الأسدية، ومن شركاء لهم في غرب يعرض استعداداً صاعداً للتحجر، وتراجعاً لفحص الضمير.

كتاب «الدولة المتوحشة» سند مناسب جداً لمقاومة الاختزال، معرفياً وسياسياً.

سورا عرف سورية مباشرة في السبعينات حيث ارتاد المعهد الفرنسي في دمشق. وكان على إلفة شخصية وعبر القراءة بمثقفين سوريين، ترد أسماء بعضهم في كتابه: برهان غليون الذي كتب مقدمة الترجمة العربية، وياسين الحافظ وإلياس مرقص. ولا يرد اسم عمر أميرالاي في الكتاب، لكن نعرف أن سورا وأميرالاي كانا صديقين، وللمخرج السوري فيلم عن صديقه الفرنسي المقتول: في يوم من أيام العنف العادي، مات صديقي ميشال سورا. سورا كان يقضي أوقاتاً متطاولة في بيروت ضد مخاوف زوجته الحلبية الفرنسية. والفصل الأخير في كتاب «الدولة المتوحشة» عن مدينة طرابلس اللبنانية مبني على بحث ميداني.

في لبنان 1985 اختطف ميشال سورا من قبل منظمة الجهاد الإسلامي، وهي واجهة لحزب الله وقتها. الأرجح أن «الدولة المتوحشة» اختطفته وتركته يموت لتحمي سلامة توحشها.

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى