ذكّرتنا وسائل إعلام تركية، أخيرا، بعادة عثمانية قديمة، هي تركيب مطرقتين على الباب الخارجي للمنزل، واحدة كبيرة لاستخدام الرجال وأخرى صغيرة للنساء. وعلى أساس ذلك، يتم التعامل مع قارع الباب واستقباله. قرع الجنود الأتراك “الباب” في سورية، ليدخلوا بطريقة مختلفة، كلفتهم عشرات من القتلى والجرحى، وبعد ستة أشهر من استماتة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في منع الدخول التركي إلى إحدى أهم قلاعه وخط الدفاع الأخير عن الرقة.
قال أحد المسؤولين الأكراد في حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، المحسوب على صالح مسلم، والذي تصفه تركيا بالتنظيم الإرهابي، قبل أسبوعين، إن الجنود الأتراك سيجدون أنفسهم يغادرون منطقة الباب بسيارات نقل خضراء، تماما كما حدث في شرق حلب، عندما نقل آلاف المدنيين والمقاتلين إلى مناطق آمنة، في إطار تسوية سياسية تركية روسية إيرانية. وهذه رسالة تعني أن تركيا وحليفها الجيش السوري الحر سيهزمان في المدينة، وأن الوحدات الكردية، أو قوات النظام السوري المدعومة من المجموعات الإيرانية، هي التي ستدخل المكان، وتطرد تنظيم داعش منه، وتحاصر الأتراك وقوات المعارضة السورية، وهذا ما لم يتم، لكننا لا نعرف إذا ما كانت قناعة هؤلاء صالحة المفعول، أو أن ما يقولونه يتجاوز معركة الباب باتجاه مفاجأة أخرى.
حراك النظام السوري وإيران والوحدات الكردية الماركسية لم ينجح في قطع الطريق على خطة درع الفرات، بالوصول إلى الباب، وتحريرها من قبضة “داعش”، لكن هذا الثلاثي يتابع عن قرب تفاصيل قرار تركيا إرسال مزيدٍ من التعزيزات العسكرية إلى شمال سورية، وهي خطوة أبعد من أن تكون تهدف إلى دعم الوحدات العسكرية الموجودة هناك، بل التجهيز للمرحلة التالية، وهي التقدم نحو مدينة منبج لتسلمها وضمانة انسحاب الوحدات الكردية منها إلى شرق الفرات، كما سبق وتعهدت واشنطن لأنقرة. هل سيكون هناك ردّا على التحرّك التركي أم إن أنقرة حصلت على الضوء الأخضر الأميركي والروسي في منبج أيضا، وهذه كانت النقطة الغامضة حتى الأمس القريب؟
استطاعت القوات التركية، وبالتنسيق مع الجيش السوري الحر، في عملية “درع الفرات” التي أطلقتها في 24 أغسطس/ آب الماضي، وبعد 185 يوما تطهير “الباب” من “داعش”. ربما أغضب إنجاز العملية واشنطن التي ردّدت دائما أن قوات حماية الشعب الكردية هي الوحيدة التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية، وأنها وحدها القادرة على دحره. وتعرف واشنطن جيدا أن أنقرة التي دخلت المدينة مضحيةً بعشرات القتلى والجرحى والخسائر المادية لن تساوم، بعد الآن، على تغيير في الخطط والاتفاقيات المتفاهم عليها، وأن الأتراك لن يتأثروا كثيرا برسالة واشنطن عبر إرسال كبار ضباطها إلى عين العرب (كوباني)، عشية الإعلان عن تحرير الباب، وفشل اقتراب بشار الأسد وصالح مسلم منها لالتقاط الصور التذكارية حتى.
تعرف واشنطن أيضاً أن تركيا لن ترضخ لأية عملية ابتزاز أو ضغوط وهمية، مثل القول إن سماح الأميركيين للأتراك بدخول منبج سيتسبب بانهيار العلاقة بين الإدارة الأميركية والأكراد، وسينعكس ربما على مستقبل عملية “غضب الفرات” الكردية في الرقة. الخطة التي تطرحها تركيا وتتمسك بها تقوم على مواجهة كل من يحاول عرقلة أي تنسيق أميركي تركي أو تركي روسي أو تفاهم ثلاثي بين هذه الدول، يشمل خطة محاربة “داعش” في الرقة ورفضها الذهاب وراء حساباتٍ أو عروض سياسية ضيقة، حتى ولو وجدت نفسها وجها لوجه أمام خط تماس مباشر مع طهران، والمحسوبين عليها في سورية.
هل تريد تركيا مثلا إقناع إدارة ترامب قبل الإعلان عن خطة وزارة الدفاع (البنتاغون) في محاربة “داعش” المرتقبة بفوائد التنسيق التركي الروسي الأميركي في الرقة، وبأنه قد يفتح الأبواب أمام تنسيق إقليمي أوسع في التعامل مع ملفات أخرى؟
هناك في تركيا من يقول إنه لو لم تذهب أنقرة، حتى النهاية، في معركة الباب، لكانت اليوم تعض أصابع الندم، وتدفع ثمن تردّدها في منع التمدّد الكردي نحو كانتون عفرين، والسقوط في مصيدة علاقتها بداعش الذي استهدف المدن التركية بعشرات العمليات الإرهابية. هناك في تركيا من يقول أيضا إن ابتعاد أنقرة عن إدارة أوباما في سياستها السورية هو الذي أوصلها إلى ما هي عليه اليوم في شمال سورية. تتحدث القيادات السياسية التركية عن استعدادها للذهاب إلى الرقة، لكنها تصر على أن الطريق إلى هناك، لا بد أن تكون عبر منبج، وهذا ما ناقشته، قبل أيام، مع نائب الرئيس الأميركي ورئيس الأركان ورئيس جهاز الاستخبارات، وهي تراهن على مصداقية أميركية وتفهم روسي، فماذا حدث؟
سيناريوهات كثيرة تتطاير في الأجواء حول ما بعد الباب. تصر تركيا على سيطرة الجيش السوري الحر على منبج، وتضييقَ الخناق على قوات صالح مسلم، ومحاصرته في شمال شرق سورية أكثر فأكثر، فهل تساوم الإدارة الاميركية على طرح التخلي عن حليفها المحلي الوحيد في سورية، في مقابل صفقات جديدة عقدتها مع تركيا؟
لم تتأخر الإجابة كثيرا.
كشفت وسائل الإعلام الدولية، أخيرا، عن الاهتمام الأميركي المتزايد بتسليح “قوات سورية الديمقراطية” وتجهيزها لمعركةٍ ما. في العلن هي معركة الرقة ضد تنظيم داعش، في الخفاء قد تكون معركة التصدي للقوات التركية في منبج، وبالتالي إبقاء مشروع ربط عفرين بالقامشلي في غرفة الإنعاش، بانتظار التحولات العسكرية والسياسية في سورية. لن يتراجع الحلم الكردي في إقامة الاقليم المستقل في شمال سورية، ما دام هناك دعم أميركي وروسي لوحدات القوى الديمقراطية، إلا إذا كان الأكراد سيقبلون بنصيحةٍ، تهبط عليهم من السماء، تدعوهم إلى إعلان كيان سياسي موحد، على الرغم من العائق الجغرافي، كما هي الحال في الضفة الغربية وقطاع غزة مثلا، أو ربط الكانتونات ببعضها، جنوب الباب، عبر خدمات مباشرة يقدمها النظام السوري لها، بهذا الخصوص، بطلب روسي أميركي.
وكانت الحسابات، في تركيا، تبني على الشكل التالي: وصول الجيش السوري الحر إلى الباب لا يعني، بعد الآن، مجرد إعادة الاعتبار إلى وحداته التي عانت من انقساماتٍ وشرذماتٍ واستهداف، بل ضرورة إشراكه في المعارك العسكرية المحتملة ضد “داعش”، لإفشال مشروع صالح مسلم الذي كان يساوم على قدراته في الجمع بين المتناقضات الكردية في سورية والعراق، ووضعها على طبق من فضة أمام اللاعبين الكبار. من هنا، تبرز مسألة تذكير تركيا بعضهم بخطتها التي تضع اللمسات الأخيرة عليها، وتهدف إلى تحريك آلاف المقاتلين العرب والأكراد الذين تدربوا في مخيماتٍ أعدت في أربيل ومناطق الحدود التركية السورية بين أورفة وغازي عنتاب وقلب الأناضول لإرسالهم إلى شرق الفرات، أي عين العرب والقامشلي، وهي المناطق التي أجبروا على مغادرتها، بسبب تهديدات حزب الاتحاد الديمقراطي وقمعه لهم. ومن أسباب زيارة مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، تركيا، أخيرا، مناقشة التفاصيل الأخيرة لهذا التحرك.
لكن التفاهمات الأميركية الروسية، أخيرا، أمام التعنت التركي في منبج جاءت سريعة وموجعة حقا. لا غبار على الحرب التركية على “داعش” في الباب، لكن موضوع تسليم منبج إلى تركيا مسألة أخرى، لا يمكن التساهل حولها. سنلتزم بوعودنا المقطوعة للأتراك بسحب الوحدات الكردية من منبج، لكننا سنسلمها لقوات النظام السوري، لأننا نحتاج إليهما معا ورقة ضغط محلي وإقليمي. منطقة آمنة تريدها تركيا في شمال غرب سورية لا بد أن تقابلها منطقة آمنة أخرى في شمال شرقها، تكون مقدمة للكيان الكردي المستقل، وعلى تركيا أن تقبل بهذا القرار الصادر عن موسكو وواشنطن، وتلتزم به.
كادت فرحة تركيا في الباب أن تكون كبيرة، لولا مفاجأة منبج التي ستدفع أنقرة إلى الرد، وخياراتها ستكون أصعب، هذه المرة، بين قبول ما يجري أو تحريك أحجار جديدة على رقعة الشطرنج السورية.
ساعة الصفر في معركة الرقة، وما تقوله أنقرة حول التفاهمات التركية الأميركية الروسية، قد تنقلب كلها رأسا على عقب، ليس بسبب قدرات “داعش” العسكرية القتالية، بل بسبب ما يحاول بعضهم فرضه على تركيا في منبج، والورقة الكردية السورية، وهي قد تتحول إلى مفاجاة أخرى للأتراك عندما نرى أن موسكو وواشنطن قرّرتا الاستفادة من الوحدات الكردية وقوات النظام السوري، بدلا من المساهمة التركية.
المصدر : العربي الجديد