في خريف العام 2012، استشارني مجموعة من الشبان الكرد، من نشطاء تنسيقيات عفرين، بخصوص عرض للتسليح قدمه لهم شخص ينتمي إلى أحد التيارات الانتهازية التي ظهرت على هوامش الثورة السورية منذ عامها الأول. قالوا إنه وعدهم بما يحتاجونه من مال وسلاح لتشكيل مجموعة عسكرية مناهضة لهيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي المتنامية، في ذلك الوقت، في منطقة عفرين. حذرتهم، بصورة مبدئية، ضد موضوع التسلح، في وقت كنا بأمس الحاجة فيه للحفاظ على بقايا النشاط الثوري المدني.
لم يمض وقت طويل حتى تشكلت أولى الكتائب المسلحة الكردية من خارج مظلة حزب الاتحاد الديمقراطي، بل ضده، ودخلت في تحالفات مع كتائب أخرى عربية في الإطار العام لما كان يسمى بالجيش الحر. تمت هذه التطورات بتشجيع من بعض أحزاب «المجلس الوطني الكردي» من الخط المقرب من قيادة البارزاني، أهمها الحزب الديمقراطي الكردستاني.
وعموماً كانت العلاقة متوترة، طوال السنوات الماضية، بين الخطين الأوجلاني والبارزاني في الحركة السياسية الكردية في سوريا، على رغم محاولات متكررة لرأب الصدع ومنع نشوب اقتتال كردي ـ كردي، بادر إليها مسعود البارزاني وانتهت دائماً إلى الفشل. فشل يتحمل مسؤوليته حزب الاتحاد الديمقراطي، لأنه من ذلك النوع من الأحزاب الذي لا يحترم تعهداته، ويعتبر السياسة شطارة وخداعاً، ولا يتخلى عن أجندته المرسومة مهما تعهد بغير ذلك. إضافة إلى أنه لا يقبل أي شراكة في سلطته المطلقة الستالينية، ولا يتسامح مع أي صوت معارض أو مستقل.
وهكذا قام بحملات إرهاب وتأديب ضد الأحزاب الكردية الأخرى، متذرعاً بمختلف الذرائع الكاذبة للتغطية على نزوعه إلى الهيمنة والتفرد والاحتكام إلى السلاح الذي يحتكر امتلاكه. في حين انتهت المجموعات الكردية المسلحة القريبة من «المجلس الوطني» إلى التفكك أو الذوبان في تحالفات فصائل عربية أو المنفى الكردستاني حيث تشكلت «بشمركة روج آفا» تحت مظلة القيادة البارزانية، من نحو خمسة آلاف مقاتل معظمهم من الشبان الكرد الفارين من الخدمة العسكرية في جيش العائلة الأسدية.
هذه القوة العسكرية المعطلة، طوال السنوات السابقة، تنامت باطراد بانتظار اللحظة المناسبة للعودة إلى سوريا. يبدو أن تلك اللحظة قد حانت أخيراً واتخذ القرار بزج بيشمركة روج آفا في الصراعات المركبة الدائرة في الشمال السوري بين قوى إقليمية ودولية، بأدوات محلية، في بؤرة جغرافية محدودة شاءت لها الأقدار أن تتمتع بقيمة استراتيجية كبيرة جداً هي بلدة الباب والقرى المحيطة بها.
صحيح أن القوات التركية تمكنت، مع الفصائل السورية التابعة لها، من السيطرة على البلدة بعد قتال طويل، لكن القوى الأخرى لم تسلم لتركيا، بعد، بهذا الإنجاز. وكجرعة إحباط أولى للأتراك، سلمت «قوات سوريا الديمقراطية» عدداً من القرى قرب منبج، لقوات النظام الكيماوي، بعدما كانت حررتها من داعش بتضحيات كبيرة. وذلك لوضع خط أحمر روسي أمام تقدم قوات «درع الفرات» الموالية لتركيا باتجاه منبج، على ما كان أردوغان قد توعد قبل فترة قصيرة.
وجاءت الضربة الثانية للأحلام التركية من الإدارة الأمريكية الجديدة التي قررت، أخيراً، اختيار وحدات الحماية الكردية حليفاً ميدانياً في الحرب ضد دولة الخلافة، بدلاً من تركيا وفصائل درع الفرات. وهكذا لم يبق أمامها غير الاكتفاء بما حققته إلى الآن والتخلي عن مشاريعها بصدد الهجوم على منبج ومنها باتجاه الرقة.
بدأت أولى الصدامات بين قوات بشمركة روج آفا وحزب العمال الكردستاني في المنطقة الحدودية بين إقليم كردستان والشمال السوري، في أعقاب زيارة مسعود بارزاني إلى إسطنبول حيث التقى نظيره التركي أردوغان، وقالت التسريبات وقتها أن موضوع زج القوات الكردية السورية في الصراع ضد حزب الاتحاد الديمقراطي كان على رأس جدول الأعمال.
مرة أخرى يبدو أن الإشارات القادمة من واشنطن بصدد استراتيجيتها الجديدة في إقليمنا دفعت القوى الإقليمية للتحرك لملاقاة التوجهات الأمريكية المحتملة ولوضع صانع القرار الأمريكي أمام معطيات جديدة لا بد له من أخذها بنظر الاعتبار. من ذلك تحرك الدبلوماسية السعودية باتجاه بغداد، والتوتر بين أنقرة وطهران، وتسليم وحدات الحماية لبعض قرى منبج لنظام دمشق الكيماوي، وإعلان الرئيس التركي عن أن درع الفرات سيتابع التقدم باتجاه منبج لطرد القوات الكردية منها إلى شرق نهر الفرات..
من المحتمل أن الاجتماع الثلاثي لرؤساء الأركان التركي والروسي والأمريكي في أنطاليا، جاء لاحتواء أي احتكاك عسكري محتمل بين القوات التركية وميليشيات النظام في المنطقة الفاصلة بين الباب ومنبج، وكذلك لمنع الصدام بينها وبين «قوات سوريا الديمقراطية».
وهو ما يعني تثبيت خطوط التماس القائمة الآن وعدم السماح بفتح جبهات قتال بين القوى المتصارعة في تلك المنطقة. وهو ما قد يستتبع لجماً أمريكياً لقوات بيشمركة روج آفا لمنعها من دخول الأراضي السورية وفتح حرب جديدة بينها وبين قوات الفرع السوري للعمال الكردستاني. ولكن من يدري؟ فلربما فضَّل الأمريكي اقتتالاً محدوداً بين الفصيلين الكرديين الحليفين له، لضبط إيقاع التوازن بينهما وضمان عدم شطط حزب الاتحاد الديمقراطي في تحالفه مع موسكو. فهذا مما يوسع مروحة الخيارات البديلة لدى واشنطن.
سبق لوفد من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ـ الجسم الرئيسي للمعارضة السياسية السورية ـ أن زار أربيل، في الربيع الماضي، وطلب من بارزاني زج القوات الكردية السورية في حرب ضد قوات حزب الاتحاد الديمقراطي، ولم يلق هذا الطلب التجاوب من مسعود بارزاني. وعلى رغم خبث هذا الطلب الساعي وراء إشعال نار حرب جديدة إضافية تحصد مزيداً من الأرواح بلا جدوى، فقد جاء على الأقل من طرف سوري معني بالموضوع. أما أن يستجيب بارزاني لطلب مماثل من تركيا ـ إذا صح ما يشاع بهذا الخصوص ـ فهذا ما يتعارض مع كل مسلكه السياسي المعروف.
المصدر : القدس العربي