مقالات

عمار ديوب – من النظام إلى القواعد العسكرية الأجنبية

استهدفت الثورة السورية في مارس/ آذار 2011 تغيير النظام بشكلٍ متدرّج، ولكنّ عنف النظام حوّلَها سريعاً إلى ثورة شعبية عارمة في أغلبية المدن السورية. وها هي في مارس/ آذار 2017، وفي ذكراها السادسة، تُواجَهُ بعدةِ احتلالاتٍ وبأدوات الأخيرة السياسيّة، كالنظام والمجموعات الجهاديّة والسلفيّة وقوات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وغيرها؛ انتقلت الثورة في صراعها من المحليّ إلى الدوليّ إذاً.

ليس كل من الوجود الإيرانيّ والروسيّ والتركيّ والأميركيّ والبريطانيّ هامشيّاً، فهو يبني قواعده العسكرية، ويخوض الحروب على الأرض، ويشارك في كل النشاطات السياسيّة المتعلقة بالحل السياسيّ، العسكرية والسياسيّة. يتنافس الروس والإيرانيّون في السيطرة على ممتلكات الدولة، ويحاولون تتبيع النظام لهم بالكامل؛ تركيا والأميركان يعتمدون على فصائل محليّة عربيّة، أو كرديّة، إضافةً إلى تدخلٍ جويٍّ وبريٍّ وبشريٍّ من مواطنيهم أنفسهم. وفي ظل استمرار الحرب بين النظام والفصائل، أو ضد “داعش” أو بين الأتراك وقوات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وسوى ذلك، فإن سورية تقودها تلك الدول؛ سورية النظام والمعارضة معاً.

أصبحت مهام الثورة التي بدأت ضد النظام الأمني الإفقاري تَجمع بين تحقيق الحريّة والتحرّر الوطني. وهذا يعني تعقيداً إضافيّاً في مسعاها؛ فسورية أصبحت محطَ أطماعٍ دوليّةٍ كاملة، والدول العظمى تُعيد إنتاج توزيع مناطق نفوذها على العالم، انطلاقاً من سورية. ولهذا، تُناقش قضايا العلاقات بين روسيا وأميركا والاتحاد الأوروبي والصين وإيران والخليج، في الوقت الذي تناقش فيه الأوضاع السوريّة.

لم يعد للنقاش بين تيارات الثورة (هناك من يتساءل: عن أيّة ثورة تتكلم؟) هل بدأت الثورة في 15 مارس/ آذار أم في 18 منه؟ أو هل الاتجاه السلمي أم العسكري كان الأصح؟ وكذلك أصبح الحديث المكرّر رديئاً، أن النظام حامي الأقليات، بينما الثورة سنيّة. أصبحت سورية تقتضي استراتيجيّة وطنيّة وثوريّة، تتجاوز الفهلويّة السابقة وتُواجِهُ الواقع كما هو: احتلالات دوليّة متعددة وبنية اجتماعيّة مُصدّعة بالطائفيّة والقبليّة والإثنيّة والجهويّة والمناطقيّة، وغياب أيّ برنامج وطني، يناقش قضايا الشعب بكل مستوياته الاقتصادية والسياسية والتعليمية والثقافية، وعدم حسم شكل الاقتصاد القادم أو شكل النظام السياسيّ والدستور ضمناً، وكذلك النظام التعليميّ وتوجهاته. إذاً هناك قصورٌ معرفيٌّ كبير في تيارات المعارضة عن صياغة استراتيجيّة ثوريّة وسورية، تلج العام السابع للثورة بتفجيراتٍ إجراميّة في القصر العدلي في دمشق؛ والأسوأ من القصور المعرفي تبعيتها للدول الإقليمية، والتحدّث بمصالح تلك الدول.

ما تطرحه الدول المُحتلة لسوريّة الآن هو حروب مُتعدّدة للوصول إلى مناطق نفوذ كاملة لها. يُرصد ذلك من خلال إلحاق منطقة جرابلس الباب ومحيطها بتركيا، ومناطق الكرد بحمايةٍ أميركيّةٍ وروسيّةٍ، والمناطق التي تحت سيطرة النظام خاضعةٌ لإيران وروسيا. درعا والسويداء وغرب دمشق قد تكون بيد الأميركان والسعوديين والأردنيين. الخلافات الآن حول الرقة ودير الزور وإدلب تدور حولها فرضياتٌ متعددةٌ، وربما أصبحت أقرب إلى السياسات التي ستُعتمد؛ فالرقة تُحاصر وستُستعاد بإشراف أميركي عبر البايادي (قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردية) والمجموعات العربية، وفي حال فشلها ربما ستعود الخيارات إلى اعتماد تركيا “لتحريرها”. ويبدو أن دير الزور ستكون من نصيب النظام وروسيا، وقد تكون إدلب من نصيب روسيا وتركيا معاً.

ما تزال المفاوضات أو المشاورات السياسيّة التي تحدث في أستانة وجنيف، وفي العواصم الفاعلة، بما يخص سورية، بلا أفق، وإن أصبحت تميلُ إلى فهم الحدث السوري باعتباره حربا أهليّةٍ بين طوائف، وبالتالي، لتسوية “طائفيّة” قادمة، كما حال العراق ولبنان، كما يشير المفكر عزمي بشارة في كتابه “درب الآلام..” الصادر عام 2013. الأسوأ أن رؤية سورية ضمن هذا الخيار هي السياسات المعتمدة لدى روسيا وأميركا أيضاً.

السوريون المشغولون بالسياسة والثقافة لم يُجذّروا استراتيجيّةً تُناقش الوضع السوري بوصفه واقعاً موضوعيّا، فقد ظلّت نقاشاتهم “سطحيّةً”، تُغيّبُ جوانبَ أساسيّة من الواقع وتستحضر أخرى، كتغييبِ الاقتصاديّ لصالح السياسيّ، أو تغييب المجتمعيّ لصالح السياسيّ، أو تظهير المجتمعيّ وتغييب السياسيّ وهكذا. قصدت أنّ مشكلات سورية لا تتحدّد بجانبٍ واحدٍ، فهي متعددة، وبالتالي، تفترض استراتيجية معقدة، وتتضمن بالضرورة الجوانب السابقة مجتمعةً، وكذلك تتضمن كيفية مواجهة الاحتلالات، وهي قضية جديدة، ظهرت بعد فشل النظام في مواجهة الثورة، وإدخاله سورية في إطار الصراعات الإقليمية والدولية، ليستطيع إنقاذ نفسه! فهل أنقذ نفسه فعلاً؟

لم يعد ممكناً إعادة سورية إلى حظيرة النظام؛ هذا أمر قطعي. أمّا النقاشات الجديدة والمتضمنة أن النظام أهّل نفسه من خلال الحرب ضد الإرهاب، وخرج من الحصار الدولي والإقليمي عليه، وإلغاء الحديث حول إسقاطه، فأعتقد أنّها لا تَقرأ المعنى الحقيقي لوجود جيوش لدولٍ عظمى وإقليمية في سورية! وربما تكون روسيا أكبر الخاسرين، ولا سيما أنها توهّمت أن سورية ستكون لها بالكامل، وستعيد فرض سيطرتها العالمية، انطلاقاً منها. نعم روسيا خسرت ذلك، وقد أشار صاحب هذه السطور، في مقال سابق، إلى الموضوع بعنوان “الغباء الروسي واللعب الأميركي”، وربما ستعود إلى ما سميت “سورية المفيدة”، وتقتصر سيطرتها الحقيقية على بعض المدن السورية، مع شراكة دولية وإقليمية على سورية. هذا الاستنتاج مرتبط بالقواعد الأجنبية، وبالحروب التي تخاض ضد الرقة ودير الزور وإدلب. وبالتالي، انتهى دور النظام القديم كما هو، والآن بدأت تلك القواعد بفرض نظامها القادم، وسيكون ذلك بعد رسم مناطق نفوذها على الأرض، وعبر الحروب التي لا تنتهي.

جاء النظام بالغزاة، ولا يمكن أن يعود إليه مجدُه القديم. المشكلة أنّ سورية عارية أيضاً من مشروع وطني ينهض بها. فشلت المعارضة في ذلك، والنظام انتهى، وبالتالي يظل الأمل معقوداً على الشعب الذي بدأ ثورته، ولن يتخلص مما تراكم بدون تجديدها. وهذا ما سيكون ما أن تتموقع الدول على الأرض، وتشكّل نظامها العميل.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى