ستيفان دي ميستورا رجل محظوظ، فهو موظف يستطيع أن يقدم استقالته في أي لحظة يرغب بها، مع احتفاظه بحق الحصول على مستحقاته كاملةً، باعتبار المشكلة ليست مشكلته، وهو مكلف بالوساطة فقط. ويبدو أخيراً أنه قد ملّ هذه المهنة، ويتطلع إلى إجازة سعيدة بعد سلسلة مضنية من الاجتماعات ورحلات الطائرات البعيدة.
في المقابل، لا يستطيع أي سوري أن يقدم استقالته من المشكلة، سواء كان عضواً في الوفود، أو مجرد شخص عادي، يتلظى تحت وطأة انقطاع الكهرباء والماء والوقود، أو يتلوى غريباً في المنافي الكريمة أو البخيلة على حد سواء، وقد وضع، بعد الفصل الخامس من مسلسل جنيف، تحت تهديد مغادرة دي ميستورا الذي كان يقوم بدور “المكوك” بين غرف المفاوضات المنفصلة التي تجلس فيها الوفود، منتظرة ردود الأطراف الأخرى.
لم يصل النضوج التفاوضي بعد إلى مرحلة المواجهة والحوار عن قرب، بدون متاريس حماية، وكل الاقتراحات التي تبادلتها الأطراف لم تكن مجديةً بمقدار كافٍ لتتقارب الطاولات مسافةَ المدى المجدي للكلمة. لذلك، ما زلنا بحاجة إلى شخصية دي ميستورا، ليشغل وضعية “كتاف المغربل”.
فَشِلَ مؤتمر أستانة الذي سبق جنيف، وعلى الرغم من أن روسيا تقول إن أستانة ليست بديلاً عن جنيف، ولكنها تصر بشكل كبير على الوجود في أستانة، قبل عقد جنيف، وفشل أستانة أدى إلى فشل جنيف الحالي، فصارت نتائجه تحصيل حاصل. اشتعلت الجهات فجأة، على الرغم من إعلان وقف النار الذي لم يجرؤ أحد حتى اللحظة على القول إنه لم يعد سارياً، وأصبحت المعارضة المسلحة على أبواب دمشق، وعلى مرمى حجر من شارع فارس الخوري في قلب العاصمة، وهي تتحرّك في حماة، بنشاط عداء المائة متر، وتوشك أن تنصب مرابضها في ساحة العاصي. ولهذا الاقتراب ثمن يمكن قطافه في جنيف، لكنّ السوريين يرغبون في حل واحد ومعروف، سواء دخلت المعارضة دمشق، أو بقيت محاصرةً، وتحت تهديد الباصات الخضراء التي يطلقها مريدو النظام وإعلامه الموجه، وفشل المفاوضات هو تفصيلٌ آخر، يجب أن نجد له مفاوضات أخرى، لنتجنبه ونقنع الجميع بالجلوس والحديث مجدّداً.
الضياع في زحمة السلال والمنصات، والتعويل على هجوم أو تراجع أو تصريح ذي سقف مرتفع لكسب سنتيمترات حوارية، وانتظار نتيجة معركة، أو اثنتين، لإزاحة المفاوضات باتجاه طرفٍ ما، وجعل نصيبه أكبر، يعني أن لا حل متوفراً لدى الجهات “الداعمة للحل”، والتي تحاول اجترار العلقم نفسه الذي نتجرّعه منذ ست سنوات.
ليست المفاوضات فض اشتباك أو اتفاقيات هدنة بين أطراف دولية، تريد أن ترسم خطوطاً فاصلة، ولا يفترض في الحوار أن يكون رهينةً لمزاج دولي، أو سياسة موجة ترغب بتوجيه الدفة في مسار محدّد، والاحتكام إلى رغبةٍ دولية، غائبة، تفرض على كل الأطراف شكل الدولة التي فقدت نفسها ومقوماتها، وكل مكوّن فيها خلال الخمسين سنة الماضية، وأضحت بحاجة لحوار منعش ومنتج، وهي أمورٌ لا يبدو توفرها قريباً لا في جنيف، ولا أستانة، ولا في أي عاصمة أخرى.
قد لا يتفوه الإعلام بعبارة “فشل جنيف”، لكنه سارع إلى إعلان استقالة دي ميستورا، وما زال ينقل سير المعارك في مختلف المدن، ويركز على تباين السلال المطروحة: الإرهاب أو رحيل النظام، أو استبداله، أم سلة تعديل الدستور أو ابتكار واحد جديد، واختلال العلاقة بين روسيا وتركيا، والتقارب الأميركي الروسي المحتمل، وصعود تيارات اليمين المتطرّف على وقع العمليات الإرهابية التي تطاول الشوارع الأوروبية. كل تلك العوامل متغيرات حوارية، تنفخ في مؤتمر جنيف للسلام السوري أو تفرغه، ويضاف إليها الكثير من التجاذب الجانبي بين الأطراف الواحدة، حتى تكاد المنخفضات الجوية والعواصف الرملية تحل متغيراً جديداً.
بهذه المتغيرات، يمكن أن نحصل على مسلسلٍ لا نهائي لجنيف، يتبدل فيه كل الممثلين، ويتعاقب عليه المخرجون على المسرح نفسه، وبالمتفرجين أنفسهم.
المصدر : العربي الجديد