كان شعار «قوة لبنان في ضعفه»، الذي طرحه وردده استقلاليون لبنانيون، يهدف إلى تحييد لبنان عن المحاور والصراعات الإقليمية، وتراكبها مع الانقسامات العمودية اللبنانية الداخلية. لكن معاندة التاريخ تحقيقَ هذا الشعار الاستقلالي اللبناني واقعياً، أفضت إلى خسارة اللبنانيين والعرب دور لبنان التنويري المفترض، في إقامة نموذج علماني ديموقراطي، يكون مُلهماً لمحيط عربي استبدادي متأخر وثيوقراطي، وبالتالي زُج لبنان في محرقة تلك الصراعات العبثية، التي دمّرت اقتصاده واجتماعه وثقافته، وأطاحت بفكرة الدور – النموذج لمصلحة الدور – المحور. يحتاج السوريون اليوم إلى تمثل مضامين شعار كهذا: «قوة سورية في ضعفها»، بوصفه شعاراً استقلالياً، يعني في أحد معانيه: تغليب فكرة سورية أولاً على فكرة سورية – المحور، بصرف النظر عن هويّة المحور المذكور، لأن الانضمام إلى محورٍ ما في «بلد – ساحة» ومنقسم عمودياً كسورية، يزيد الانقسام عمقاً واتساعاً، ويمنع تحولها إلى وطن وإلى مجتمع وإلى دولة، ويبقيها في حالتَي استنزاف وتعفّن دائمين.
ولطالما ولّدت سياسات «الدور الإقليمي» لسورية، المحمولة على ظهر المؤسستين العسكرية والأمنية، أوهام القوة في واقع كان في حاجة إلى أوهام دائمة، وغذّت وعياً جمعياً زائفاً عند «المجتمع الجماهيري»، الذي أنتجته «الدولة التسلطية» وفقاً لحاجاتها الأمنية الخالصة، وكذلك حجبت أوهام القوة تلك إمكانات تشكل وعي مناسب لدى السوريين بحاجاتهم الفعلية، المتمثلة في التنمية الاقتصادية والتعليم والصحة والاندماج الوطني والعدالة والديموقراطية وبناء الدولة الوطنية. وصار واضحاً عدم قدرة السوريين بعد هذا الدمار الرهيب، الذي أصاب عمرانهم واقتصادهم واجتماعهم وثقافتهم الوطنية، تحمّل فكرة أدوار إقليمية مرة أخرى، في مستقبلهم القريب أو البعيد. يجب أن يقتنع السوريون بأن الوطنية السورية أبقى لهم وأجدى من المشاريع ما فوق الوطنية، التي لم تجلب لهم سوى الأوهام والحروب الأهلية وتبديد الموارد والموت الرخيص على مذابح أوثان الاستبداد وأوثان العقائد والأيديولوجيات المختلفة.
ومن مضامين شعار «قوة سورية في ضعفها» تأسيس مفهومي الإنسان والمواطن في ثقافة السوريين وعلاقاتهم الاجتماعية المستقبلية، بالتعارض مع مفهومي الكائنين الأيديولوجي والميليشيوي، اللذين ينتجهما المحور الديني أو القومي أو المذهبي – المقاوم، تلك الكائنات المخرّبة الحياة والاجتماع البشري، كونها كائنات انحلّت في هويّة نسلية أو معتقدية.
ومن مضامين ذاك الشعار أيضاً نبذ العوامل التي أفضت إلى عسكرة الحياة السياسية وغير السياسية، السورية، ونجمت عن تضخيم دور الجيش وتحوله إلى مؤسسة استلاب وقهر وذبح للسوريين. إن تغليب سورية أولاً على سورية المنضوية في محور مذهبي أو أيديولوجي، يعني بناء جيش وطني غير عقائدي محترف قليل العدد، مهمته حماية الحدود الخارجية فقط، بحيث يتم وضع ضوابط وطنية صارمة، تمنع تدخله في السياسة وحياة السوريين العامة، وهذا كله يقتضي إعادة بناء رؤية سورية خالصة للصراع والتسوية مع إسرائيل، تتسق مع مهام الخروج من حالة المأزق التاريخي الراهن. ومن معاني شعار «قوة سورية في ضعفها» إقامة الحد على ثنائية «البطل – الشهيد». فلكي تنهض سورية المدمرة، لم تعد في حاجة إلى أبطال «تاريخيين» وغير تاريخيين، وإلى شهداء في سبيل قضايا معتقدية كبرى أو صغرى، ولا تحتاج إلى «مجاهدين» أو «مناضلين». فالجهاد الحقيقي في سورية النازفة هو جهاد إحلال قوى المعرفة والتنمية والسلم المجتمعي، وهو جهاد طرد عناصر الحرب الثاوية في بنى المجتمع وثقافته الاستبدادية التسلطية.
ومن معانيه أيضاً إعادة تشكيل مفهوم القوة بدلاً من أوهامها، فقوة السلطة والتسلط هي إضعاف لقوة الدولة، وقوة الدولة لا تتأتى من تضخم الجيش والأمن وهمجيتهما، بل من قوة القانون العام وشموله وسموّه واحترام الحاكم والمحكوم له، وذاك ما كان غائباً في سورية البعثية. وقوة الإيمان لا تتأتى من كثرة ميليشيات «الله» وأحزابه وكثرة الناطقين باسمه، بل من نمو ضمائر البشر الفردية ونمو أخلاقهم العامة وروحهم الإنسانية على حساب انتماءاتهم الهويّاتية، ونمو الدين كجوهر روحي وتراجعه كوثنيات وعصبيات.
وكذلك الحد من قوة الجماعات ما قبل الوطنية: الطائفية والمذهبية والإثنية وسلطة الرأي العام، لمصلحة بناء قوى المجتمع والشعب والدولة والفرد المتحرر من الجمهور-الكتلة، وأيضاً الحد من قوة الإرادات الفئوية والأوليغارشية الخاصة، لمصلحة تشكيل حوامل الفكرة العمومية التي يعبر عنها العقد الاجتماعي بوصفه إرادة عمومية فعلية.
بكلام مختصر: شعار «قوة سورية في ضعفها»، يعني الانتقال من مسار الصراع و «التكاون» والتفاني الحالي في سورية، الذي ينشر أوهام القوة الإقصائية المتمحورة على الخارج، إلى مسار التكوّن والتشكّل في أطر إنسانية ووطنية عامة هي مصدر قوة السوريين الحقيقية غير الزائفة.
المصدر : الحياة