تقترب تركيا بسرعة من موعدها مع استحقاق الاستفتاء العام على التعديلات الدستورية، منتصف شهر نيسان/ابريل المقبل. الحملة الترويجية بين أنصار التعديلات وخصومها على أشدها. معروف أن جوهر هذه التعديلات يتعلق بتغيير النظام البرلماني القائم إلى نظام «رئاسة الجمهورية» كما نص التلفيق الذي تم لإرضاء حزب الحركة القومية الذي دأب رئيسه، سابقاً، على رفض التحول إلى «النظام الرئاسي»، وأعلن، منذ الصيف الماضي، موافقته على تغيير النظام السياسي بالصيغة التلفيقية المذكورة. ويشكل التغيير المقترح خروجاً على تقليد ممتد منذ تأسيس الجمهورية التركية على أنقاض الإمبراطورية.
وعلى رغم حكم الحزب الواحد الذي ساد لنحو ثلاثة عقود، وعبر عن تفرد مصطفى كمال بالحكم، فقد كانت هناك دائماً أحزاب معارضة تنافس حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات النيابية، ولو شكلياً. وفي أواخر الأربعينيات، بعد وفاة «القائد المؤسس»، تنافست الأحزاب بصورة حقيقية في الانتخابات، وانتقلت السلطة للمرة الأولى إلى حزب المعارضة الرئيسي (الحزب الديموقراطي) الذي حكم طوال عقد الخمسينيات، قبل أن يطيح به أول انقلاب عسكري في تاريخ الجمهورية (1960) وهكذا ارتسم نوع من تقاسم السلطة بين «دولة عميقة» تمثلها المؤسسة العسكرية التي ترى في نفسها حامية «قيم الجمهورية» التي وضعها مصطفى كمال، ودولة ظاهرة تمثلها حكومة منتخبة. في حين ظل منصب رئاسة الجمهورية ذا قيمة رمزية وبروتوكولية، مقابل كامل السلطة التنفيذية التي تمسك بها الحكومة ورئيسها.
شهد عهد حزب العدالة والتنمية تآكلاً تدريجياً لدور المؤسسة العسكرية، بلغ ذروته في معركة الانتخابات الرئاسية للعام 2007، حيث رشح حزب العدالة والتنمية عبد الله غل، وشهدت ساحات المدن التركية مظاهرات كبيرة للتيار العلماني لرفض هذا الترشيح بذريعة حجاب زوجة المرشح. ونشرت قيادة الأركان «إنذاراً» على موقعها الألكتروني، سرعان ما تحول إلى آخر مسمار في نعش الوصاية العسكرية على الحياة السياسية. ثم كانت الخطيئة الكبرى التي ارتكبها حزب الشعب الجمهوري بإفشال عملية التصويت في البرلمان على منصب الرئاسة بحجة عدم اكتمال النصاب. كان ذلك تلاعباً مكشوفاً بالنصوص الدستورية المعنية بالموضوع، فتح الباب أمام مخرج تمثل بانتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرةً، بعدما كان ينتخبه البرلمان.
رجب طيب أردوغان الذي تمتع بقاعدة شعبية كبيرة، منذ رئاسته لبلدية إسطنبول، وعزز تلك الشعبية في السنوات الأولى لحكم «العدالة والتنمية» التي شهدت إنجازات اقتصادية كبيرة، صعد إلى منصب الرئاسة منتخباً من الشعب، ورأى في ذلك تفويضاً له بممارسة السلطة التنفيذية كاملة، على رغم أن الدستور القائم ما زال يعتبر هذا المنصب بروتوكولياً. فقد عين بديله في رئاسة الحزب، لحظة استقالته منه، بحكم وجوب حياد الرئيس السياسي وفقاً للدستور، وأصبح رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو مجرد منفذ للسياسة التي يرسمها أردوغان. وحين أبدى «الخوجا» شيئاً من التمرد على هذه الوصاية، عزله أردوغان، في أيار/مايو 2016، وعين بدلاً منه رئيس الحكومة الحالي بن علي يلدرم.
في خلفية هذا المسار، شهدت تركيا أحداثاً كبيرة هزت استقرارها وهددت بتقويض كل النجاحات التي حققها حزب العدالة والتنمية منذ العام 2002. ففي آذار/مارس 2011 بدأت الثورة الشعبية في سوريا، ولم يمض وقت طويل حتى حسمت الحكومة التركية خياراتها وانخرطت بصورة فاعلة في دعم الثورة ضد نظام الأسد، ففتحت أبوابها أمام اللاجئين ومنحت المعارضة السياسية الرئيسية عنواناً على أراضيها، فضلاً عن دعم المعارضة المسلحة التي منحتها الإمكانات اللوجستية بسخاء. تعثر الثورة السورية والتعقيدات التي ألمت بها وصولاً إلى عجزها عن إسقاط النظام، سواء بالوسائل السلمية أو المسلحة، ضيّق من هامش الخيارات البديلة أمام الحكومة التركية، وخاصة بسبب عدم تجاوب الحليف الأمريكي مع الاقتراحات التركية الهادفة إلى تسريع إسقاط النظام السوري. فتحولت المشكلة السورية إلى مشكلة مديدة بالنسبة لتركيا، بلا أفق قريب لأي حل، وبخاصة أن المجتمع التركي غير موحد في موقفه من التدخل التركي في الصراع السوري، وهناك معارضة لا يستهان بحجمها لهذا التدخل.
ثم جاءت «انتفاضة منتزه غزي» في قلب مدينة إسطنبول، 2013، مستلهمةً ثورات الربيع العربي، وامتدت إلى مدن أخرى غير إسطنبول، فقمعتها الشرطة بصورة عنيفة. منذ تلك الانتفاضة الشعبية وأردوغان يهجس بفكرة «مؤامرة» دولية ضده، خاصة وأن توقيتها تزامن تقريباً مع الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتاح السيسي في مصر ضد الرئيس الإسلامي المنتخب محمد مرسي. بعد ذلك كان اندلاع الصراع المكشوف بين الحكومة وجماعة فتح الله غولن الإسلامية، في كانون الأول/ديسمبر 2013، والذي سيمتد وصولاً إلى الانقلاب العسكري الفاشل في 15 تموز/يوليو 2016 الذي اتهم به ضباط موالون لغولن الذي يقيم في الولايات المتحدة. من جهة أخرى، شهدت السنوات الماضية تطورات دراماتيكية على صعيد المشكلة الكردية في تركيا التي تمتد جذورها إلى بداية تأسيس الجمهورية. ففي عيد النوروز عام 2013، أعلن عبد الله أوجالان ـ القائد الأسير لحزب العمال الكردستاني- في رسالة وجهها لجمهوره في ديار بكر «نهاية الكفاح المسلح» والانتقال إلى العمل السياسي لتحقيق تطلعات الكرد في تركيا. كان ذلك بناءً على مسار أطلقته حكومة العدالة والتنمية مفعم بالآمال لإنهاء صراع دموي استمر لعقود وكلف الطرفين عشرات آلاف القتلى. ثم انقلبت الحكومة على وعودها وعادت إلى شن الحرب على المناطق الكردية في جنوب شرق الأناضول، منذ صيف العام 2015. وانهارت عملية سلمية شهدت الكثير من التعرجات بعد سنوات من إطلاقها.
كل هذه التطورات زادت من هواجس أردوغان ورفعت شهيته السلطوية من أجل تحقيق التحكم التام بالتفاعلات السياسية في البلد وفي السياسة الخارجية.
هذه، باختصار، خلفية التعديلات الدستورية المقترحة التي يريدها أردوغان تحويلاً للأمر الواقع القائم إلى نص دستوري: إلغاء منصب رئاسة الوزراء، ليصبح رئيس الجمهورية هو نفسه رئيساً للحكومة، واستطراداً يعود إلى رئاسة الحزب، فيحدد بنفسه مرشحي الحزب إلى الانتخابات البرلمانية، فيصبح هؤلاء، في حال نجاحهم، مدينين له بكرسي النيابة، فتكتمل سيطرة الرئيس على الغالبية البرلمانية، بعد سيطرته على وزراء الحكومة الذين يعينهم بنفسه. كما يتمتع الرئيس، وفقاً للتعديلات المقترحة، بسلطة حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة.
ربما الأسوأ من التعديلات نفسها، من وجهة نظر المعارضة، هو الطريقة التي تدير بها الحكومة الحملة الترويجية للتعديلات الدستورية. ففضلاً عن استخدام موارد الدولة ووسائل الإعلام «الموالية» لمصلحة التعديلات، يكرر خطباء أنصارها روايةً مفادها أن خصوم النظام الرئاسي هم «خونة للوطن» أو عملاء أجندات أجنبية، أو يريدون تفكيك تركيا، أو هم من أنصار الانقلاب العسكري الفاشل. بالمقابل يتهم معارضو النظام الرئاسي أردوغان بالرغبة في تأسيس دكتاتورية الرجل الواحد المشخصنة. ترى أي طريق سيختار الأتراك في 16 نيسان/ابريل القادم؟
القدس العربي