أعلنت تركيا، قبل أيام، انتهاء عمليتها العسكرية في شمال سورية، معتبرة أنها “انتهت بنجاح”، ولكن من دون استبعاد شن حملات عسكرية جديدة داخل سورية، وتحت أسماء مختلفة.
نجحت تركيا في إبعاد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عن حدودها الجنوبية، وكذلك، نجحت، إلى حد كبير، في إفشال خطة تمدّد المليشيات الكردية في وصل المناطق التي ينتشر فيها الأكراد داخل أراضي الجمهورية العربية السورية، عبر قطع طريقها في التقدم باتجاه عفرين.
صحيح أن خطوة تركيا جاءت “متأخرة” في وقتٍ أخذت فيه مليشيات انفصالية التمدّد لقطع أوصال سورية، وتهديد الأمن القومي التركي مباشرة، إلا أنه يمكن تفسير التأخر بأن أنقرة لم تكن ترغب في القيام بأي تحرّك عسكري خارج أراضيها من دون غطاء دولي، وعرقل ذلك أيضاً التوتر التركي – الروسي الذي ساد خلال ثمانية أشهر سابقة، إلا أن مسارعة المليشيات الكردية إلى تحقيق مشروعها باستغلال الفوضى التي تجتاح سورية جعلت أنقرة تجد أنه لا مفر لها من التدخل بنفسها.
وكانت تركيا قد بدأت في أغسطس/ آب الماضي عملية “درع الفرات” في شمال سورية، من أجل أن تبعد عن حدودها الجنوبية كلا من “داعش” والمليشيات الكردية (الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني). وفي إطار هذه العملية، تمكّنت الفصائل السورية التي تدعمها تركيا من طرد تنظيم الدولة من مدن عدة، بينها جرابلس والراعي ودابق، وأخيرا مدينة الباب.
وكانت خطوة أنقرة هذه لتتصدى بها للتهديدات والتأثيرات، بسبب غياب الدولة في الجارة سورية، والأهم في ذلك كله، دعم المجموعات السورية المعتدلة، وبالتالي تحرير المناطق التي تضرر سكانها، وكسب ودهم، وإعادة المهجّرين منها، بعد سيطرة المليشيات الكردية و”داعش” عليها، ومن شأن هذا التغير السياسي والعسكري في سورية دعم الاستقرار الإقليمي.
الواضح أن تركيا لا تحافظ على المكون الديموغرافي للمناطق المحيطة بها من خلال العمليات العسكرية فقط، وإنما تستخدم القوة الناعمة أيضاً لتحقيق ذلك، من خلال المساعدات الإنسانية الخدمية المقدمة للاجئين السوريين والعراقيين والمساعدات الخدمية التي قدمت لسكان جرابلس، وستقدم أيضاً لسكان الباب من خلال إعادة إعمارها، وذلك في إطار جهود تركية للحفاظ على المكون الديموغرافي (العربي – التركماني) الذي يمنع تشكل مكوّن ديموغرافي آخر، يؤثر في الأمن الاستراتيجي لتركيا، ويوقف عملية تمزيق سورية.
مساعدة أنقرة في عودة من يرغب من اللاجئين والنازحين السوريين إلى مناطقهم التي فرّوا منها، إن كان بسبب سيطرة “داعش” أو المليشيات الكردية، تجعلنا نتوقع أن يعود 100 ألف سوري يعيشون في مدينة غازي عنتاب التركية إلى المناطق التي تمت استعادتها في ظل عملية درع الفرات، وفي مقدمة تلك المدن التي سيكون إليها وجهة الرجوع هي مدينة الباب السورية، بعد إعادة تأهيلها، (خير مثل جرابلس وعودة آلاف إليها بعد تحريرها)، حيث ليس لتركيا أي مصلحة في استمرار الحرب في سورية، فلم تنل أنقرة منها سوى المشكلات طوال السنوات الخمس الماضية.
لا يخفى أن تركيا استطاعت جمع المتناقضات، لتتبدل مواقف مختلف الأطراف تجاه تدخلها العسكري المباشر الأول في سورية، فلم تعد روسيا تعارض تحليق الطيران التركي في الأجواء السورية (للمرة الأولى بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية)، وأيدت واشنطن العملية العسكرية التركية، وشاركت فيها طائرات التحالف الدولي والطائرات من دون طيار التي تتبع له، كما تخلت بعض فصائل المعارضة السورية عن موقفها الرافض قتال تنظيم داعش، وحصر نشاطها بقتال النظام السوري.
ويبدو أن الأجواء الدولية والإقليمية اليوم تغيرت عن التي كانت سائدة قبل أشهر، وترافقت مع إطلاق تركيا عمليتها العسكرية في الشمال السوري. ومن الواضح أن هناك مرحلة جديدة من التنسيق بين موسكو وواشنطن، وتحديدا ما حصل حول مدينة منبج “العربية” غرب الفرات، وهذا ما يجعلنا ننظر، عبر أكثر من زاوية، إلى الإعلان التركي انتهاء “درع الفرات”، فربما يكون على غرار إعلان روسيا، العام الماضي، انتهاء عملياتها العسكرية في سورية، في حين أن الواقع عكس شيئا مختلفا، ومن ثم تكون تركيا في حلٍّ من كل التزاماتها التي ترافقت مع “درع الفرات”، ولا سيما أمام روسيا، فلا يخفى أن التحرّكات العسكرية التركية الأخيرة في سورية، في شقٍّ منها، نتيجة للتقارب التركي – الروسي، عقب تجاوز حادثة إسقاط الطائرة.
وتستطيع أنقرة، في هذه الحالة، تقديم الدعم الذي تريده، وتحرك حلفاءها على الأرض، من دون أي مسؤولية مباشرة أمام أي جهةٍ كانت.
كما لا يمكن إغفال أن تركيا اليوم أمام استحقاق داخلي مهم، وهو الاستفتاء الدستوري في 16 أبريل/ نيسان المقبل، ولهذا الإعلان معان كثيرة في أوساط الشارع التركي، قد تنعكس على نتائج الاستفتاء، في محاولةٍ لكسب الأصوات المعارضة عملية درع الفرات.
والشيء الأهم تحقيق العملية أهدافها المعلنة في محاربة تنظيم داعش، وتطهير الشريط الحدودي من جرابلس إلى أعزاز، في تناغم مع الأهداف المعلنة للتحالف الدولي وروسيا المعادي لداعش، وكذلك قطع الطريق على تمدّد المليشيات الكردية بهدف السيطرة على كامل الشريط الحدودي مع تركيا، وهو ما يتناغم مع أهداف المؤسسة العسكرية التركية، ومع الرأي العام التركي والسوري (الرسمي والمعارض) الرافض أي مشاريع انفصالية تحت مسميات ناعمة (فيدرالية، إدارة ذاتية)، مع عدم إغفال حقيقة أن تركيا بانتهاء “درع الفرات” تكون قد فرضت منطقة آمنة بحكم الأمر الواقع.
وعبر عن ذلك وزير الدفاع التركي، فكري إيشيك، بالقول إن “درع الفرات” قضت على التهديدات التي كانت تطاول تركيا من مناطق “داعش” قبل تحريرها، فضلا عن قضائها على أحلام الامتداد السوري للعمال الكردستاني، المتمثلة في الوصل بين كانتوناته، وأكد أن بلاده ستطلق عملية عسكرية أخرى بدون تردد، وقت الضرورة للقضاء على كل التهديدات، في حال تعرض أمنها للخطر.
ومن الواضح أن تركيا، بإعلانها انتهاء “درع الفرات”، والذي تزامن مع وصول وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، إلى أنقرة، ستسعى إلى وضع ثقلها وتوطيد دورها في عملية الرقة، على الرغم من أن هذا الموضوع معقد، إلا أنه، في حال حدوثه، يتيح تدخل قواتها بين بلدتي تل أبيض وعين العرب السوريتين، وضرب عصفورين بحجر، فصل المنطقتين الذي أعلنته المليشيات الكردية في مناطق إدارتها، ومحاربة “داعش”، ولكن هذه المرة في ظل عملية عسكرية جديدة، فلا تزال القوات التركية متمركزةً في المناطق المؤمنة، وعلى طول الحدود، ولم تكشف أنقرة عن عدد قواتها المشاركة في العملية العسكرية، لكن المؤكد أن الدور التركي، بعد 16 أبريل/ نيسان، سيكون أكثر فاعليةً، وسيكون باستطاعته اتخاذ خطوات أكثر تأثيراً على مسار الأحداث سورياً وإقليمياً، سياسياً وعسكرياً.
يبقى القول إنه إلى اليوم لا يمكن اعتبار المليشيات الكردية من الخاسرين… فالحسكة، وأهم منابع البترول السورية ، وسد تشرين، ما زالت في أيديهم. وهذا يعني أن هناك أكثر من معركة مؤجلة آتية في إطار الحرب السورية، ولكن ليس من الصعب التكهن بأن الذي يدعم الموقف التركي في شأن حزب العمال الكردستاني وامتداده السوري الآن أكثر، سيكون لديه أفضل العلاقات مع أنقرة، و”درع الفرات” عملية دفاعية بحتة، ولم تكن حرباً.
المصدر : العربي الجديد