مقالات

علي العبد الله – «إعلان دمشق» في تراث الثورة

مع أن قراءة «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي» للمزاج الشعبي السوري، ولتوجهاته في ضوء تداعيات الربيع العربي، جاءت صائبة حيث جزم في بيان له في أواخر شباط (فبراير) 2011 أن الثورة في سورية آتية، ودعوته قوى المعارضة للاستعداد لملاقاتها، فإنه لم يستطع هو ذاته القيام بذلك، ناهيك عن عجزه عن لعب دور مباشر فيها واكتفائه بتقديم الدعم لها من خارجها، مع انه تبنى الدعوة إلى الانخراط فيها.

لم يكن تحول موقف «الإعلان» من الانخراط في الثورة إلى دعمها تحولاً اختيارياً، بل نتيجة عجز موضوعي ترتب على ما واجهه من تطورات وتغيرات داخله، وعلى نمط العقل السياسي الذي قاده قبل الثورة وأثناءها. فقد تعرّض «الإعلان» لهزات داخلية عدة بدأت بخروج أحزاب وشخصيات ساهمت عام 2005 في تأسيسه، منها من خرج على خلفية صراع سياسي انفجر خلال عقده مجلسه الوطني يوم 1/12/2007. مثلاً، حزبا «الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي» و «العمل الشيوعي» انسحبا على خلفية خلافات سياسية قبل انعقاد «المجلس» وخلاله، ومع خسارتهما في انتخابات الأمانة العامة. وقد بررا انسحابهما بهيمنة التيار الليبرالي المتأمرك على «الإعلان» وشنا عليه حملة تشهير قاسية، كاذبة ولا أخلاقية. وانسحبت كذلك الأحزاب الكردية السبعة، التي شاركت في تأسيسه، في مرحلة لاحقة، على خلفية رفض الأمانة العامة للإعلان عن مطالب قدمتها تتعلق بالحقوق القومية للكرد. وهذا إضافة إلى حملة الاعتقالات التي تعرض لها «الإعلان» بُعيد عقد مجلسه الوطني، والتي طاولت معظم أعضاء أمانته العامة والحكم على كل منهم بالسجن مدة عامين ونصف العام، وانسحاب عدد منهم بعد خروجهم من السجن، كل لاعتباراته الخاصة.

هذا شلّ «الإعلان» وحدّ من قدرته على لعب دور مؤثر في الحياة الوطنية في الفترة التي سبقت الثورة (2007 – 2011) وأفقده وهجه وجاذبيته الشعبية، ووضعه في موقف صعب في مواجهة مستدعيات ثورة الحرية والكرامة وتحدياتها. وقد زادت دعوته السابقة إلى ملاقاة الثورة المقبلة، وتبنيه لها عند انفجارها واتخاذه موقفاً صلباً إلى جانبها ومطالبته القوى السياسية والاجتماعية إلى الانخراط فيها، موقفه دقة وحراجة.

لم يرتبط ضعف دور «الإعلان» بعجزه الموضوعي عن ملاقاة الثورة والانخراط فيها فقط، بل أيضاً بالإدارة الحزبية والعقل النمطي لقيادته، الذي حولها إلى قوة نابذة في لحظة سياسية تستدعي التجميع والتكتيل مع القوى والشخصيات المعارضة بصيغ تتناسب مع مستوى الاتفاق والتوافق، والمدى الذي يتيحانه. لقد دخلت قيادة «الإعلان» في حوارات مع قوى سياسية لكنها لم تثمر أو تدوم بسبب المعايير التي تبنتها في هذه الحوارات، وهي معايير حادة تشترط التطابق الكامل قبل القيام بأي تحرك مشترك، ما قاد إلى إسقاط معظم القوى والشخصيات المعارضة من قائمة القوى المستهدفة. تصرف على الضد من المنطق السياسي السليم الذي ينطلق من فرضية بسيطة: عدم وجود الصفر والمئة في الحياة العملية، حيث لا توجد قوة لا تتقاطع معها بالمطلق أو قوة تتطابق معها بنسبة مئة في المئة، وهذا يفرض سياسة الأخذ من كل قوة، أو شخصية، ما تستطيع تقديمه من إمكانات وإقامة تحالفات مرحلية وتوظيفها في تعزيز قوى المعارضة، تحالفات تتغير في ضوء مستوى الاتفاق والتوافق، ووفق تطورات الصراع ومستدعياتها، سياسة لا تنسجم مع عقل سياسي نمطي يتحرك وفق قاعدة «كل شيء أو لا شيء». وهي سمة صبغت عقل معظم قيادة «الإعلان» في تعاملها ليس مع قوى المعارضة التقليدية، التي يشوبها نواقص وضعف، بل مع قوى «الإعلان» ذاته، ما دفع قوى وشخصيات إلى الانسحاب منه، وانشقاق عدد لا بأس به من كوادر الأحزاب المتبقية فيه وتشكيلها كياناً موازياً بالاسم ذاته، ومع قوى الثورة كذلك (في حديث بين قيادي بارز في «الإعلان» وقادة لجان التنسيق المحلية عبّر هؤلاء القادة عن حاجتهم إلى المشورة السياسية وطلبوا من القيادي في «الإعلان» التعاون في هذا المجال، فجاء رد القيادي صادماً: نحن لا نتعاون مع أناس لا نعرفهم).

لقد وقعت قيادة «الإعلان» في خطأ سياسي قاتل حين تبنت الفصل بين قوى الثورة والتنسيقيات التي تشكلت، واعتبارها الأخيرة ظاهرة «فايسبوكية» خادعة لا تستحق التقدير أو الاهتمام. لم يستطع عقلها الحزبي تقبل ظواهر ثورية غير حزبية، بخاصة أنها تشكلت بعيداً منها وخارج عباءتها. لقد سبق لهذه القيادة أن حاربت ظاهرة «لجان إحياء المجتمع المدني» وحطت من قدرها، أطلقت عليها تسمية تحقيرية: «لجان الدفاع المدني»، على الخلفية الحزبية ذاتها والتفكير النمطي، ناهيك عن لعبها، وهي تحاول حماية الثورة ودعمها دوراً سلبياً عبر تقمّص دور «الرقيب» على قوى المعارضة والثورة ووضعها تحت المجهر وإصدار أحكام نهائية ضد أية قوة أو شخصية تقع في خطأ أو تمر في لحظة ضعف بوضع علامات استفهام كبيرة حولها تمس نزاهتها ووطنيتها.

وهذا، مع مغادرة القسم الأكبر من كوادر الأحزاب المنخرطة فيه البلد إلى الخارج والهاجس الأمني الكبير الذي يهيمن عليها، وضعف دور «الإعلان» في «المجلس الوطني السوري» بداية و «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» لاحقاً، حد من قدرته على التخطيط والتحرك الميداني وأفقده القدرة على التفاعل والتعاون ما زاد في تعميق عجزه وملاشاة دوره.

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى