المواقف الأميركية الأخيرة من أزمة سورية ليست مفاجئة. الجديد فيها أنها كشفت صراحة السياسة التي تنهجها الإدارة الجديدة.
وكان على قوى المعارضة أن تتوقع ذلك بدل الانتظار أو الرهان على توجهات مغايرة. الرئيس دونالد ترامب قال في إحدى حملاته الانتخابية إن النظام في دمشق يحارب «داعش» فلماذا يقاتله؟ وردد عشية الانتخابات الرئاسية أن الحرب على التنظيم الإرهابي أولوية تتقدم على «اقناع الأسد بالرحيل». وهذا ما كررته مندوبته لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي: «لم تعد إزاحة الأسد أولوية».
وكان وزير خارجيته ريكس تيلرسون أكثر صراحة: الشعب السوري يقرر وضع الرئيس «على المدى البعيد». إنه موقف الإدارة السابقة. بل هو موقف لم يكن طوال السنوات الست الماضية قريباً إلى هذا الحد من موقف روسيا. لعل هذا ما سمح للرئيس فلاديمير بوتين بأن يتحدث عن تعاون فعلي بين البلدين «يتحسن ويتعمق في بعض المجالات الحساسة مثل سورية». بالتأكيد إن الحرب على الإرهاب هي أولوية الدولتين. ولا شك في أن القوات الروسية تراقب الآن كيف سيثمر الانخراط الأميركي العسكري المتنامي في معركة الرقة. كأنها تترك المعركة للأميركيين كما كانت لها معركة حلب. لكنها لا تخفي رغبتها في عودة «عاصمة الخلافة» إلى حضن الشرعية.
التفاؤل بإمكان تعميق التعاون مع واشنطن الذي يبديه الرئيس بوتين قد لا يقود إلى تغييرات جذرية في الواقع القائم. تركت له مواقف إدارة ترامب الساحة السورية، ما دام أن التفاهم على صفقة شاملة لكل القضايا العالقة بين البلدين تبدو بعيدة. فهو يدرك أن ما كان يأمل به من انفتاح وتغيير مع قدوم الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض تعترضه عراقيل جمة. ليس بينها وجود جنرالات صقور يعارضون مثل هذا الانفتاح فحسب. بل أيضاً «قضية» التدخل الروسي في الاستحقاق الانتخابي الأميركي والاتصالات بين رجال ترامب ومسؤولين روس. وهي تشهد تطورات يومية تشغل عامة الأميركيين وليس المسؤولين في الكونغرس والقضاء وحدهم. وتضغط على الإدارة الجديدة وتحد من خياراتها الخارجية. لذلك لا تعول موسكو كثيراً على تعاون قريب يدفعها إلى تعديل جوانب في سياستها حيال سورية. بل هي كانت أصلاً ولا تزال تستعجل ترسيخ أوضاع تراعي مصالحها في هذا البلد لتفرض مشروعها للتسوية ورؤيتها هي في أي تعاون أو تواصل مع جميع المعنيين بالصراع القائم في بلاد الشام.
مواقف واشنطن يجب ألا تشكل مفاجأة للمعارضة السورية. فقد سمعت هذه طوال سنوات الأزمة سؤالاً واضحاً من المسؤولين الأميركيين عن البديل من الرئيس بشار الأسد. كانوا يعبرون صراحة عن قلقهم من « اليوم التالي» بعد إزاحته. هذا القلق شاركهم فيه كثير من القوى وليس روسيا وحدها. بل ثمة دول عربية راودتها مخاوف -خصوصاً بعد الخلل في ميزان القوى- من أن يكون البديل إيرانياً، أو في أحسن الأحوال قائداً ميدانياً من القوى الإسلامية التي تبدو الأكثر نشاطاً وفاعلية في الحرب الدائرة.
ولا نقصد المعارك التي اندلعت أخيراً في دمشق وريف حماة. فلن تحقق هذه نتائج تبدل في ميزان القوى، وإن تركت نوعاً من المفاجأة أو الصدمة في أوساط النظام وحلفائه. الحضور الروسي لن يسمح بتغييرات ميدانية. وهو شارك ويشارك في منع تحقيق أي مكسب للفصائل. لذلك بدا كأن ثمة تسليماً في أوساط قوى كثيرة مناوئة لإيران بدور موسكو وقواتها في بلاد الشام. يرون إلى هذا الدور أقل خطراً من حضور الجمهورية الإسلامية. فلا يضير عرباً كثيرين وجود روسيا في بلاد الشام. كان هذا الوجود حاضراً طوال عقود. ولا طائل من سعي بعض أطياف المعارضة أو عزمها على استيضاح الإدارة الأميركية ما جاء في تصريحات ديبلوماسييها. مثلاً ماذا يعني الوزير تيلرسون بقوله إن الشعب السوري يقرر مصير رئيسه «على المدى البعيد»؟ ما هو المدى البعيد، متى؟ في الانتخابات التي نص عليها القرار 2254 أو حتى نهاية ولايته؟ وماذا بعد «أولوية محاربة داعش»؟ بل ماذا بعد القضاء على التنظيم الإرهابي؟
الحرب على الإرهاب هو ما يعني إدارة ترامب. لا تبدي أي أهتمام بالتسوية على غرار ما فعل أوباما ووزير خارجيته جون كيري. ولا تقتصر حربها على الرقة وحدها. لذك جاءت ضغوط «السي آي إي» على الفصائل المعتدلة في الشمال السوري، في إدلب وريفها، كي تلتئم في جسم واحد أو تحت قيادة موحدة للتنسيق في أرض الميدان. والهدف الأول بالطبع قتال «هيئة تحرير الشام» التي تضم في من تضم «النصرة» وما شابهها. لكن ما يقلق هو المرحلة التالية للقضاء على التنظيمات الإرهابية. وهذا ما أزعج تركيا التي تعبر عن خيبتها يومياً من اعتماد الأميركيين على الكرد. وهذا ما عبر عنه ديبلوماسيون عرب شاركوا في قمة البحر الميت الأسبوع الماضي. أكثر ما يخشاه المعنيون بوحدة سورية أن يصبح قيام الكانتونات أمراً واقعاً لا مفر منه. وقد يجر إلى تعميم التجربة على المشرق العربي برمته. لا أحد يتوهم، ولا حتى الروس أنفسهم يعتقدون بأن نظام الأسد قادر على حكم سورية كما كانت الحال قبل اندلاع الأزمة. همهم، على ما يقولون أن تبقى سورية للسوريين وليس لإيران أو تركيا. وأن يبقى النظام علمانياً فلا تنجر البلاد إلى كانتونات مذهبية متحاربة. لذلك قدموا مشروع دستور يقترب من الفيديرالية بقدر ابتعاده عن المركزية وحصر معظم الصلاحيات بيد الرئيس. ويخشى الحريصون على وحدة سورية أن يتكرس الأمر القائم اليوم. فجبهة الجنوب تشكل منطقة استقرار بناء على تفاهم روسي – أردني – إسرائيلي – أميركي نجحت عمان في نسجه. وكذلك الأمر في الجبهة المحاذية للجولان التي تخضع لتفاهم بين إسرائيل وروسيا. وكانت لتركيا حصتها في جرابلس والباب، وإن لم تر إليها كافية. فهي إلى حد ما منطقة استقرار بديلاً من تسميتها «منطقة آمنة». ويجهد الروس إلى حماية الكرد في عفرين ومحيطها غرب الفرات حيث يسعى الأميركيون إلى تطهير هذه المنطقة من «النصرة» واشباهها. وإذا قيض للكرد «حكم ذاتي» في الشمال الشرقي لسورية تكون لهم مناطق النفط والزراعة. تكون لهم ثروة البلاد!
تدرك روسيا أن تعزيز حضورها في سورية لا يستدعي مواجهة مكشوفة مع إيران ومشروعها في هذا البلد. بل هي تسعى إلى تعزيز علاقاتها معها، خصوصاً أن هذه تحتاج إلى القوة الروسية لحماية النظام. وبدل أن تنتظر موسكو بلا طائل التفاهم مع واشنطن، تنصرف إلى تفاهمات مع دول الإقليم، من تركيا إلى إسرائيل والأردن ومصر وغيرهما من قوى عربية، تراعي مصالح هذه وحضورها في مناطق نفوذ محددة. ولكن لا غلبة لطرف على طرف. وهذا كاف باعتقادها لقيام مناطق مستقرة وإن شاب البلاد شيء من التقسيم والتفتيت. فيما تبقى الكلمة العليا والأولى لها دون الآخرين. في مقابل هذه السياسة الواضحة للكرملين، ثمة شكوك في أن يكون لإدارة ترامب سياسة واضحة أو متماسكة حيال مرحلة ما بعد الرقة وإدلب. وإلا ما معنى غيابها عن جولات جنيف وعدم اهتمامها بأي حديث عن تسوية سياسية؟ ستكون روسيا مرتاحة إذا رفع العلم السوري في الرقة وإدلب، كما هي الحال في القامشلي والحسكة وغيرهما من مناطق الكرد. الصورة تبرز، وإن شكلياً، وحدة البلاد ووجود النظام، أياً كانت القوى الفعلية على الأرض. لكنها بالتأكيد كانت تفضل دوراً سياسياً للولايات المتحدة يكون منطلقاً إلى تفاهمات أوسع وابعد من سورية. لكن «مبايعة» ترامب موسكو في سورية تركت كرة النار بيدي بوتين، وحرمته من ورقة مساومة.
بعد هذه المواقف الأميركية الجديدة القديمة، لا ينفع قوى المعارضة انتظار ما سيؤول إليه الصراع المقبل بين إدارة الرئيس ترامب وإيران. أو الرهان على مفاوضات في جنيف لن تثمر تسوية قبل القضاء على الإرهاب. وقبل جلاء الصورة كاملة في الولايات المتحدة. ولا يمكنها أن تراقب الحرب على «داعش» فقط. أو أن تشارك فيها فحسب. هل تجترح معجزة فتبادر إلى توحيد صفوفها تحت قيادة سياسية وعسكرية تشكل عنواناً لا بد منه لجميع اللاعبين في الميدان السوري، ويقدم بديلاً مقنعاً إلى هؤلاء وإلى جميع السوريين الراغبين في التغيير؟
المواجهة الأميركية مع إيران لن تأتي بالحل. ستكون أكثر تعقيداً. وقد لا تقتصر على الطرفين وحدهما. بل إن قوى عربية شاركت في القمة أخيراً تخشى أن تلجأ الجمهورية الإسلامية إلى خوض مواجهة شاملة في كل الإقليم، إذا شعرت بأنها ستواجه مزيداً من العقوبات أو قد تخسر الاتفاق النووي. بالطبع لا ترغب طهران في الحرب ومثلها واشنطن والآخرون. يبقى منطق التسويات أقل كلفة وإيلاماً من أي حرب… هذا إذا لم تتطور «قضية» تدخل روسيا في الانتخابات الأميركية إلى فضيحة تمهد لإطاحة الرئيس ترامب!
المصدر : الحياة