أثار المفكّر السوري الراحل صادق جلال العظم بطرح مفهوم «العلويّة السياسيّة» في سورية، جدلاً واسعاً، بخاصّة لدى من يوالون نظام الأسد ومن يعارضونه. خلاصة الرفض تكمن في اعتبار ذلك التوصيف كأنّه «سبّة» أو «إهانة» لأبناء الطائفة العلوية، وليس محاولة تحليل وتشخيص للبنى العقائديّة التي يستند عليها نظام البراميل والكيماوي الأسدي. وحتّى قبل اندلاع الثورة، كلّما حاول أحد الكتّاب التساؤل عن سبب وجود جنرالات علويين يترأسون المناصب الأمنيّة والعسكريّة الحساسة، يجيء الرد: «هذا كلام طائفي»، من دون تقديم تفسير او إجابة منطقيّة!
الآن حين يشار إلى الدور والتأثير العلوي في أداء حزب العمال الكردستاني بزعامة جميل بايك (أوجلان المرشد الروحي – الآيديولوجي للحزب)، يُردّ بالشتم والتخوين والاتهام بالطائفيّة. فحين نشرت صحيفة «الحياة» مقالاً لي بعنوان «العمال الكردستاني وأكراد سورية…
والعلويّة» يوم 22/11/2016، ثارت ثائرة أنصار الكردستاني السوريين. ولم تقتصر آلة التشويه على العامّة، بل تجاوزت ذلك إلى الكتّاب المحسوبين على الحزب، فقال أحدهم: «كاتب كردي برتبة سنّي»، بدل أن يكلّف نفسه الردّ على المعلومات الموثقة والواردة في المقال، بمعلومات موثّقة مفنّدة!
مناسبة الكلام، ما تمّ تداوله نقلاً عن وكالة «آكي» الإيطالية (30/3/2017) حول أصول وهويّة معظم قيادات «وحدات الحماية الكردية» التابعة للكردستاني، من أنهم أكراد علويون من تركيا. والحقّ أن ما أوردته «آكي» كان أقرب إلى مقال رأي منه إلى تقرير إخباري او تحقيق صحافي موثّق. وردّ فعل أنصار الكردستاني وأنصار أنصاره، كان أيضاً أقرب إلى «الهسترة الغوغائيّة» من الردّ الموضوعي الهادئ.
في تقديري، العلوية السياسيّة مشبعة في تركيا على صعيد التجارب الحزبيّة، سواء في السلطة أو المعارضة.
وفور انهيار السلطنة العثمانيّة، كان أكثر من رحّب بالنظام الجمهوري العلماني الأتاتوركي، العلويين، أتراكاً وأكراداً، نتيجة المجازر والويلات التي تعرّضوا لها إبان السلطنة، بخاصّة في عهد السلطان مراد الرابع (1612-1640). ترحيب العلويين بالنظام الجمهوري، لم يكن حبّاً بالعلمانيّة وفهماً لها، وإقراراً بمنافع النظام، بقدر ما كان كرهاً وانتقاماً من النظام العثماني. وسرعان ما تمردّ العلويون الكرد على النظام الجمهوري في انتفاضة ديرسيم 1937-1938 بقيادة الزعيم الكردي العلوي سيد رضا، وقد سحقها أتاتورك وقصف المدينة بالطائرات (وقتل 14 ألف مواطن، وفق الإحصاءات الرسميّة، ونحو 60 ألفاً وفق الإحصاءات الكرديّة العلويّة)، ثم اعتذر عنها رجب طيب أردوغان باسم الدولة في 23/11/2011. تلك المجزرة بحق العلويين، لم تدفعهم للارتداد عن دعم خيار الجمهوريّة العلمانيّة، كونهم يعلمون أن العودة الى السلطنة أسوأ من الارتداد عن الجمهوريّة.
وحتى الآن، أغلب قيادات حزب «الشعب الجمهوري» والأحزاب اليساريّة القانونيّة والمحظورة والمتطرّفة، كانوا وما زالوا من العلويين الأكراد والأتراك، ككمال كلجدار أوغلو زعيم «الشعب الجمهوري»، وقبله ماهر جايان زعيم حزب جبهة التحرير الشعبية التركيّة، الذي قتل في اشتباك مع الشرطة التركيّة في 1972، وحسين إينان، من مؤسسي جيش التحرير الشعبي التركي، ودنيز غزميش زعيم جيش التحرير الشعبي التركي الذي أعدم شنقاً، وإبراهيم كايباكايا زعيم الحزب الشيوعي التركي الذي قتل تحت التعذيب. وبالتالي، العلويون كانوا من مؤسسي الجمهوريّة ومن ضحاياها، ومن مؤسسي المعارضة اليساريّة للنظام الأتاتوركي أيضاً. والمجتمع العلوي في تركيا، بأكراده وأتراكه وتركمانه، مسيّس بنسبة تزيد على 95 في المئة، ليس فقط ضمن التيّارات السياسيّة وحسب، بل ضمن مؤسسات المجتمع المدني أيضاً. بالتالي، هنالك قضية علويّة، كاملة الأوصاف في تركيا.
وضمن هذا المناخ الطائفي المسموم الذي يجتاح الشرق الأوسط، من الغباء والعبث، ما يفعله أنصار الكردستاني حين يحاولون نفي تأثّر حزبهم بهذا المناخ، باعتبار أن الحزب يساري، علماني، وأفكاره «كونيّة» عابرة للقوميّات والأديان والمذاهب!
ذلك أن زعيم الحزب أوجلان، وفي مطلع الثورة السورية، طالب بالحوار مع نظام الأسد، وأشار إلى التحالف معه في حال استجاب النظام لمطالب الحزب. وسبق أن نشرتُ أقوال أوجلان بهذا الخصوص، وفي شكل موثّق. واكتفي هنا بإيراد تصريح واحد فقط يشير فيه إلى علويّة النظام تلميحاً. فقد صرّح عبر محاميه يوم 4/5/2011: «الانتفاضات الاحتجاجية مستمرة في سورية. كما أن منظمة الإخوان المسلمين أيضاً نادت بالانضمام إلى الاحتجاجات (…) هل ينضم الكرد أيضاً الى الاحتجاجات وكيف؟ يمكن أن يكون هنالك أرضية للمفاوضات (مع النظام). يجب أن يكون هنالك علاقات «تشتغل» على هذا المنحى. يجب الذهاب إليهم والتحدّث معهم. يجب أن يقولوا للأسد ما يلي: «إذا جاءت منظمة الإخوان المسلمين الى السلطة، ستقوم بالمذابح ضدنا (يقصد الكرد والعلويين)، لهذا السبب، فإننا سنبني وحدات دفاعنا الذاتي الشعبي».
وعليه، ثمّة نفس ينطوي على تخويف وترهيب الكرد والعلويين من الخطر المشترك، على قاعدة طائفيّة، من «الإخوان المسلمين»، في خطاب أوجلان. وهو ذاته النفس في خطاب نظام الأسد، أثناء تجييش الطائفة العلويّة ودفعها للاحتماء به من أخطار احتمال وصول «الإخوان» الى السلطة.
ومع أن أكثر من نصف القيادات المؤسسة للكردستاني عام 1978 كانوا علويين، أكراداً وأتراكاً، كذلك ثمة الآن حضور علويّ واضح الملامح في قيادة الكردستاني. مثلاً لا حصراً: باسي هوازت، نائبة جميل بايك في قيادة الحزب، رضا آلتون، مسؤول العلاقات الخارجية والمسؤول المالي للحزب، مصطفى قاراسو، مسؤول الإعلام، علي حيدر قيطان، من المؤسسين.
وأثناء تصفّحي جريدة «سرخوبون» الرسميّة لسان حال «الكردستاني» (العلماني اليساري البعيد من النفس الطائفي)، وفق مريديه، وجدت أن الجريدة من تاريخ صدورها في ألمانيا عام 1982 ولغاية 2012، لم تكن تنشر مواد تتعلق بالعلويين والقضية العلوية في تركيا في أبواب الدراسات ومقالات الرأي. لكنها بدأت وبكثافة تنشر مثل هذه المواد منذ نيسان (أبريل) 2012.
فالعمال الكردستاني ليس معصوماً عن التأثّر بالرياح الطائفيّة وسط هذه المناخات، ويستحيل ألاّ يكون للكتلة العلويّة الوازنة داخل الحزب أي تأثير على خياراته وسياساته وقراراته الاستراتيجيّة. وهذا الأمر، ليس من منطلق أنني طائفي أو سنّي، كما يحلو لأنصار «الكردستاني» اتهامي! فمن يراجع كتاباتي سيعرف مدى انتقادي لتفريخات الإسلام السياسي، المعتدلة منها والمتطرّفة.
لكن الموضوع لا يتعدى كونه دفاعاً منهم عن أحزابهم وعن ضلوعها وضلوعهم في هذه السلطة القائمة وانتهاكاتها.
المصدر : الحياة