مقالات

بكر صدقي – ضربة بستين مليون دولار

تبلغ كلفة صاروخ توماهوك الواحد مليون دولار أمريكي. هذا التفصيل مهم بالنظر إلى شخصية دونالد ترامب الذي ينظر إلى العالم بعيني رجل أعمال ملياردير، هو القادم من خارج المؤسسة السياسية الأمريكية. من المحتمل أن الرجل «قرَّشها» جيداً في الأيام التي سبقت الضربة الصاروخية على مطار الشعيرات التابع للنظام الكيماوي شرقي حمص، من ضمن العوامل الأخرى التي ساهمت في إصدار القرار. وهي عوامل كثيرة على ما فصلت المواد الصحافية طوال الأيام التالية على الضربة. يبرز من بينها عاملان، ليس بينهما التألم على الأطفال الذين قضوا ضحايا غاز السارين في بلدة خان شيخون في محافظة إدلب.

الأول هو تنظيف إرث سلفه باراك أوباما في نزوعه الانكفائي الذي بلغ حداً استعاد معه فلاديمير بوتين أحلامه القيصرية، وراح يتصرف كقوة عظمى ند للولايات المتحدة، فغزا جزيرة القرم ويعمل على فصل المقاطعات الشرقية عن أوكرانيا، فضلاً عن تفرده المطلق بالموضوع السوري، حرباً تدميرية وتسويةً تبقي على السفاح الكيماوي بشار الأسد على رأس مقاطعة تابعة للامبراطورية الروسية.

والثاني هو معركته في الداخل الأمريكي على شرعية انتخابه المشكوك فيها بسبب فضيحة التدخل الروسي سراً لمصلحته في الانتخابات. خاصة وأنه يلاقي مقاومة لا يستهان بها، من المؤسسات الأمريكية الراسخة، في تنفيذ بعض وعوده الانتخابية، وبخاصة فيما يتعلق بموضوع الهجرة وقانون التأمين الصحي (أوباما كير). ومن العوامل المتفرعة عن هذين، يمكن أن نركز على الرغبة في إعادة التموضع في السياسة الخارجية، بما يتسق مع السياسة الأمريكية التقليدية. أي إعادة الاعتبار للتحالفات التقليدية مع أوروبا ودول الخليج، وما يستتبع ذلك من العودة إلى سياسة عدائية تجاه إيران، وغير متهافتة، على طريقة أوباما، مع روسيا. ومن نافل القول أن الضربة تخدم، قبل كل شيء، حملة ترامب المركزة على ما يعتبرها أخطاء قاتلة لأوباما في الموضوع السوري. وعلى الأخص فيما يتعلق بالخط الأحمر الشهير لسلفه الذي ابتلعه مقابل صفقة تسليم مخزون السلاح الكيماوي لدى نظام بشار الكيماوي.

الواقع أن ضرب بشار لبلدة خان شيخون بغاز السارين كان بمثابة هدية ثمينة لدونالد ترامب، فتحت أمامه رزمة من الفرص التي يصعب جمعها معاً بهذه الطريقة. فقط بتسعة وخمسين صاروخ توماهوك، لا تتجاوز كلفتها الرقم نفسه من ملايين الدولارات، قلب ترامب الطاولة على كل اللاعبين الإقليميين الذين استفادوا من فراغ القوة الأمريكي في عهد أوباما، وغيّر قواعد اللعبة. وعلى رأس هؤلاء روسيا وإيران وحزب الله اللبناني.

فجأةً استعادت بريطانيا وفرنسا وألمانيا سياساتها القديمة تجاه النظام الكيماوي: لا حل سياسياً بوجود بشار الأسد في السلطة! وذلك بعدما كانت أذعنت للتسوية الروسية المقترحة التي تتضمن القبول ببشار الكيماوي على رأس السلطة في سوريا في «المرحلة الانتقالية» مع «حقه» في الترشح مجدداً للانتخابات الرئاسية بعد انتهاء المرحلة المذكورة. وعاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى لغته الحادة تجاه النظام الكيماوي، بعدما كان قد وافق، على مضض، على بقائه في السلطة، وانخرط مع الروس في مسار آستانة الذي نتج عنه تسليم مدينة حلب للنظام، مقابل الحصول على جيب في الشمال يقطع الامتداد الجغرافي بين كوباني وعفرين لمنع قيام كيان كردي على طول حدود تركيا الجنوبية. فساهم بإضعاف المعارضة المسلحة، وارتضى دور شاهد الزور على عملية وقف إطلاق نار كاذبة، كانت غطاء لقضم النظام وحلفائه مزيداً من الأراضي، واستنزاف السكان المدنيين في تهجير ديموغرافي ممنهج لمصلحة النفوذ المذهبي الإيراني.

حتى الأردن المشهور بحذره في مقاربة الملف السوري، وباتصالاته الأمنية التي لم تنقطع مع النظام الكيماوي، وسياسته المعلنة التي كانت أقرب لبقاء النظام، غيّرت لهجتها تغييراً جذرياً بلغ حد الترحيب بالضربة الأمريكية على مطار الشعيرات. وينطبق الأمر نفسه على دولة الإمارات العربية المتحدة.

يمكن القول إن الضربة أنهت، قبل كل شيء، مسار آستانة الروسي ـ التركي ـ الإيراني، إلى غير رجعة، ما لم تدخل فيها الولايات المتحدة كشريك مقرر، وذلك لتصحيح مسار وقف إطلاق النار ليصبح وقفاً حقيقياً وشاملاً يحترمه النظام قبل المعارضة. كما من أجل وضع استراتيجية حقيقية لـ»مكافحة الإرهاب» المتمثل حالياً، من وجهة نظر الإجماع الدولي، في دولة داعش الإسلامية وتنظيم القاعدة بفرعها السوري (النصرة)، بدلاً مما يقوم به النظام والطيران الروسي من مكافحة المدنيين، وبخاصة الأطفال.

كذلك انتهى مسلسل مؤتمرات جنيف للتسوية السياسية، بقيادة روسيا وانفرادها، ما لم تتحول إلى مؤتمر تسوية حقيقي يقوم على قرارات الأمم المتحدة ومرجعياتها المقرة دولياً، بحيث يكف ممثلو النظام عن تضييع الوقت في العربدة وبذاءات بشار الجعفري المعهودة، وينخرطون في تسوية تعني تقديم التنازلات والتخلي عن مفهوم «سوريا الأسد» لمصلحة مفهوم متوافق عليه بين أطراف أنداد، بما في ذلك تحديد مصير الأسد خارج السلطة و/ أو في المحاكم الجنائية المختصة. ووضعت ضربة الستين مليون دولار حداً للطموحات الإمبراطورية لفلاديمير بوتين. دعكم من النبرة العالية للمسؤولين الروس في اعتراضهم على الضربة. فقبل كل شيء أخبرهم الأمريكيون بموعدها قبل ساعتين لكي يسحبوا قواتهم من المطار. وأذعن الروسي صاغراً ففتح الأجواء السورية للصواريخ، ولم يفكر لحظة واحدة في اعتراضها بمنظومة صواريخه الدفاعية الشهيرة التي زرعها في سوريا. واتضح أن كلامه عن تعليق التنسيق الجوي مع واشنطن في الأجواء السورية، لا يتجاوز الكلام الإعلامي، وأن التنسيق المذكور مستمر. وكل الكلام الروسي «الغاضب» في دفاعه عن «براءة» الحمل الوديع بشار الأسد من الهجمة الكيماوية على خان شيخون، لا يعدو كونه تغطيةً على العجز الروسي التام في مواجهة القرار الأمريكي الفاعل، أمام الرأي العام في الداخل والخارج.

التصريحات الأمريكية المتضاربة تركت هامشاً من الغموض حول سؤال: ما هي الخطوة التالية بعد الضربة؟ هل ستكون هناك ضربات أخرى، أم أنها ستبقى يتيمة بما لا يؤثر على استمرار آلة القتل والدمار في سوريا؟

لو كانت الضربة بمجرد دوافع إنسانية، رداً على هول ما حدث في خان شيخون، كان يمكن القول إن ترامب لن يكررها، وهو صاحب الشعار الشهير «أمريكا أولاً». لكن الواقع أن أطفال خان شيخون الذين اختنقوا بغاز السارين، هم آخر ما يهم ترامب وفريقه. أما لماذا أتحدث عن ستين مليون دولار بدلاً من تسعة وخمسين؟ فجوابه أن الصاروخ رقم ستين قد أصاب الكريملين في الرأس.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى