صفقةٌ طائفيٌّة بامتياز. شركاؤها، جبهة النصرة/ فتح الشام من ناحية وحزب الله من ناحية أخرى. لم يكن للسكان المحليين السوريين من دورٍ فيها؛ فلا أهل الفوعة وكفريا، ولا أهل الزبداني ومضايا، سعيدون بها. ومن عارضها من البلدات الأربع واجه ضغوطاً أجبرته على الإذعان والتهجير. تبدأ الضغوط بالحصار المستمر، على الرغم من الفارق بين حصار بلدات إدلب، فهم مدللون، عن سكان ريف دمشق، فقد كانوا يموتون يومياً من الجوع ونقص الأدوية والتدمير الوحشي.
شملت الصفقة مناطق أخرى في ريف دمشق، وإخراجَ مقاتلين تابعين لجبهة فتح الشام من مخيم اليرموك، وبالتالي، هي لصالح هذه الجبهة بالتّحديد؛ وبذلك يتعزّز الميل الطائفي في سورية؛ فالصفقة هذه تُرسل رسالة طائفيّة بامتياز: إنّ ما تمَّ وما يتمُّ في سورية هو صراعٌ طائفيٌّ بين شيعةٍ وعلويين وسنة.
حرّرت الثورة، بشعبيّتها وبجيشها الحر، أغلبية الأرض السورية، حيث خرجت عن سيطرة النظام حينها، بينما تسبّبت جبهة النصرة والإسلام السياسي والسلفية بتقديم الذريعة للنظام، ولحلفه من إيران وحزب الله، لتطييف الثورة وللقيام بتهجيرٍ واسعٍ، بدأ بالقصير، ولن ينتهي بالبلدات الأربع المذكورة أعلاه. خرجت قيادات السلفية الأساسية والجهادية من معتقلات النظامين السوريّ والعراقيّ وسجونهما، وهي من شَكّلَ جبهة النصرة وداعش وجيش الإسلام وأحرار الشام وسواها.
ليست فقط السلفيّة والجهاديّة ما أَهلتِ الأرض للتهجير، بل كذلك سياسة المعارضة ذاتها، تلك السياسات التي تعاطت ببراغماتية فاشلة مع جبهة النصرة بالتحديد، ودعمتها، وكذلك صمتت عن الحركات السلفية، وكانت النهاية تصفية أيّ دورٍ قياديّ للمعارضة في الداخل، بما فيه الجيش الحر؛ حتى التهجير الجديد هذا لم يُرفَض بكلٍّ كامل. كان صوت المعارضة ضعيفاً وما زال. إذاً، النظام وهذه المنظمات ورداءة سياسات المعارضة كانت السبب بتشويه الصراع ضد النظام، وتحويله إلى أشكال أخرى، وتدخلٍ اقليميٍّ ودوليٍّ.
مع “الجهاديّة”، بدأت الثورة الشعبيّة بالفشل، وحينها توازن النظام كثيراً، حيث انقسم الشعب بين مُؤيّدٍ للجهاديّة والسلفيّة ومؤيّدٍ للدولة، وإن لم يعلن ذلك علناً. هذا ليس أمراً بسيطاً؛ مشكلة النظام أنه لم يلعب على هذه النقطة بالتحديد بما يكفي، لأنّه نظامٌ أمني وثأريٌّ، ويُريد تصفية كل ما يخص الثورة وحاضنتها. حلّه الثأري هذا هو ما منعه من الانتصار على السلفية والجهادية التي قهرت الشعب بدورها. الضعف الشديد وإطالة أمد الثورة ودعم إيران الكامل له لم يُخمد الثورة، وهذا قوّى من الجهادية، وأصبحت تهدّد النظام، ولا سيما في منتصف 2015، وهو ما اضطره للاستعانة بالروس حينها، وكان التدخلُ الروسيُّ السبب الوحيد في إزالة خطر التهديد بالانهيار.
هل يمكن للتهجير الطائفيّ وإعادة توزيع التركيبة السكانيّة كسياسةٍ إيرانية، أن يكون حلاً سياسيّاً لسورية؟! ربما سيكون طالما أنّ الحرب مشتعلة، وأن المعارضة لا تتمثل فيه؛ ولكن وحالما تنتهي الحرب سيعود السكان الأصليون إلى أماكنهم، وستخرج إيران وكل مليشياتها من سورية. يحاجج كثيرون، وهل من سكانٍ عادوا إلى أراضيهم بعد تهجيرٍ؟ سنقول ربما كثر لم ولن يعودوا، ولكن ما حصل ويحصل في سورية هو ثورة شعبيّة، وهي لا علاقة لها لا بالجهاديّة ولا بالسلفيّة ولا بالطائفيّة، وما حصل من تهجير هو بسبب النظام، وهذه الجماعات سيتم إلغاؤها في أية عمليّة سياسيّة قادمة.
هناك، ولا شك، ميلٌ طائفيٌّ غزا أهل الثورة، فالممارسات التي مُورست باسم الطائفيّة لا يمكن مواجهتها لدى كثيرين، إلا بنزوع طائفيّ نقيضٍ. الأحداث الطائفية التي حصلت في سورية توضح أن الطائفية، بكل أشكالها، كانت وبالاً على سورية، وبالتالي لا يمكن إخماد هذا الميل من دون الاعتراف بفشلها وبخطئها وبعدم جدواها؛ ما أقصده هنا أن من مصلحة الثورة والسوريين محاصرةَ هذا الميل، وتجاوزَ كل ما تمّ باسم الطائفية من مجازرٍ وقتلٍ ودمار وسوى ذلك كثير.
يدعم ذلك إجراء محاكمات واسعة، ووفقاً لقوانين العدالة الانتقالية. المحاكمات هي ما تساهم في تخفيف الاحتقان الطائفي، وتطرح العيش المشترك لأبناء البلد من كل الطوائف في بلداتهم ومدنهم. إعادة الأهالي إلى منازلهم أيضاً ستساهم في ذلك بالتأكيد.
يفترض أن تتخلص المعارضة التي مارست البراغماتية من كل ميل طائفي بدورها، وأن تتقدّم برؤية وطنية تتجاوز النظام والسلفية والجهادية، أي أن ترى الظاهرة الطائفية ظاهرة معزولة، وليس من مصلحة السوريين السير فيها. تجارب الدول المحيطة بسورية محبِطة وتؤكد ما نذهب إليه.
تسكين أهالي كفريا والفوعا في القصير كما يُشاع هو أوّل مرة يتم في سورية وبهذه الضخامة، وتُشرف عليه إيران ومليشياتها، وبموافقةٍ روسيّة وأميركيّة وكل الدول المتدخلة في الشأن السوريّ. قبل ذلك، كان يُهجّر الأهالي وتُهدم أو تُحرق منازلهم وتُترك فارغة. العملية هذه هي إسكانُ شيعة في منازل للسُنّةَ، لِسُكان هُجّروا منها منذ سنوات. يراد إذاً تحويل هذا الموضوع إلى صراعٍ طائفيٍّ بين السوريين، لا يُبقي ولا يذر، وهذا ما يحقق مصلحة إيرانية أولاً، ومصالحَ كل من يريد تدمير التنوع في البنية الاجتماعية السورية، وتسييس المجتمع طائفياً ومذهبياً.
الضربة الأميركية أخيرا، وما أثير حول نتائجها، وتحديداً التضييق على إيران لتقليص نفوذها في سورية، وربما شنّ عملية كبرى ضد فتح الشام في إدلب لاحقاً، وبالتالي، قد يتعرّض سكان الفوعة وكفريا إلى خطر كبير، ربما هو ما عجّل بتهجيرهم. ربما شكلت هذه الوقائع دفعة لكل من جبهة النصرة وإيران، لإنهاء هذا الملف، ويكون للنصرة بسببها وفرة مالية كبرى، وربما هناك أسباب أخرى لم يُكشف عنها.
انتهى الحلم الإيراني بخطٍ جغرافيٍّ يمرّ عبر بغداد فالموصل ثم حلب، ومروراً بالبادية وحمص ووصولاً إلى القصير؛ فأميركا في الموصل الآن، وهي وروسيا في حلب، و لم يبق لإيران إلا حزب الله. وبالتالي، هذا الإسكانُ إن تحقق في مدينة القصير مع إجلاء أهالي الزبداني، وتقليص سكان مضايا، وربط هذه المناطق بنفود حزب الله في لبنان، أقول ربما هذا ما تحلم به إيران، وقد يكون هو ما عجّل بالعملية الطائفية الترانسفيرية بامتياز.
على كل حال، ومع أيّة عمليّةٍ سياسيّةٍ في سورية، ستُطرح مسألة التهجير على طاولة الحل، وستعود أغلبية الأهالي إلى حمص والقصير وحلب وداريا ووادي بردى والزبداني وكفريا والفوعا كذلك وبقية المناطق. في سورية يُعدّ التغيير الديمغرافيُّ الطائفيُّ أشبه بالمستحيل، فهناك أغلبية سنيّة وأقليات، وهذا ينسف فكرة التهجير في ظروف سلمية؛ فقط يمكن ذلك في إطار الحرب. ولهذا تستبق إيران إيقاف الحرب، وتنفيذ آخر مشاريعها الطائفية في سورية.
المصدر : العربي الجديد