تشكل المبادرة الروسية بإقامة مناطق عازلة في سورية، أو كما سميت “مناطق تخفيف التصعيد” تطورا مهما، حيث استطاعت دفع الحراك السياسي الدولي الخاص بسورية إلى الأمام: عودة الاتصالات بين الرئيسين، الأميركي والروسي، بعيْد توقفها، إثر مجزرة خان شيخون، مشاركة أميركية في “أستانة 4” بمستوى أعلى من قبل، دعم أوروبي للمبادرة الروسية، ارتفاع مستوى التنسيق الروسي ـ التركي. لكن أهم ما يلفت الانتباه بالمبادرة هو التغير الحاصل في ذهنية صناع القرار في موسكو، واقتراب الأخيرة من الرؤية التركية التي طالما دعت إلى إقامة مناطق آمنة، بأهداف مختلفة تقريبا.
جاء المقترح الروسي نتيجة قناعة موسكو بفشلها في صناعة وقف إطلاق نار مستدام في سورية، بناء على رعاية الدول الثلاث الضامنة، فقد كشفت الأحداث حقيقتين لروسيا، الأولى أن النظام السوري وإيران لم يلتزما بالهدنة العسكرية، واستطاعا ضرب الاتفاق الروسي في الصميم، في وقت بدت موسكو عاجزة عن منعهما. والحقيقة الثانية وجود قوى عسكرية على الأرض ذات ارتباطات إقليمية تتجاوز تركيا، ولا بد من توسيع مروحة الدول ضامنة الهدنة.
وربما لا تنفصل معارك الغوطة الشرقية عن المبادرة الروسية، فليس مصادفةً أن تنطلق معارك الغوطة بعد ثلاثة أيام من لقاء وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، وليس مصادفةً أن تطالب المبادرة الروسية الفصائل المعتدلة بمحاربة المنظمات الإرهابية المدرجة على لائحة الأمم المتحدة، وأهمها تنظيم الدولة الإسلامية و جبهة فتح الشام.
وعلى خلاف المعارك السابقة، أعلن “جيش الإسلام”، هذه المرة، في بيان له، أن هدفه القضاء على هيئة تحرير الشام، وعمودها الأساسي “فتح الشام” في الغوطة الشرقية.
بدأت روسيا، في الآونة الأخيرة، تستشعر خطر الزحف الأميركي المتسارع في الملف السوري، ولا يتعلق الأمر بضربة مطار الشعيرات ومعارك الرقة فحسب، بل أيضا بالتحرّكات الأميركية في قلب محافظة دير الزور والجنوب السوري والجنوب الشرقي عند الحدود السورية
ـ الأردنية والسورية ـ العراقية، مع نية أميركية لم تعد خافية بصنع وقائع جديدة على الأرض في المناطق الحدودية لسورية في الشمال والجنوب والشرق.
ومن شأن زيادة هذا الحضور العسكري الأميركي في سورية، مع اقتراب إدارة ترامب من الوصول إلى رؤية للحل السياسي، أن يعقّد الدور الروسي ويضعفه، إذا ما نجحت الأخيرة في إنجاز شيء ما على الأرض. ولذلك، يمكن القول إن المبادرة الروسية قد تكون، في أحد وجوهها، خطوة استباقية لقطع الطريق على التحرّكات الأميركية المستقبلية، أو على الأقل تثبيت الوقائع العسكرية التي حصلت أخيرا، من خلال هذه المبادرة التي تحظى بدعم دولي.
من هنا، ثمّة تساؤلات حول المبادرة وأهدافها الحقيقية، هل جاءت لتعويض الفشل الروسي في سورية المتمثل بوقف إطلاق النار؟ أم أنها محاولة لتحقيق الأهداف التي فشلت روسيا مسبقا في تحقيقها؟ يبدو أن الهدفين متلاصقان، فلا يمكن فصل رغبة موسكو في تثبيت وقف إطلاق النار وتحييد إيران أو إضعاف هيمنتها في سورية، عن رغبتها في تثبيت النظام وتقوية وجوده على حساب فصائل المعارضة.
بداية، يؤدي تطبيق المبادرة الروسية إلى وقف القصف الجوي ووقف إلقاء البراميل المتفجرة، ووقف العمليات العسكرية البرية للنظام وحلفائه، خصوصا في المناطق واضحة التقسيم، كما في حلب ـ إدلب وريف حمص الشمالي ودرعا في الجنوب. لكن، تبقى معضلة المناطق التي تتداخل فيها المنظمات الموصوفة بالإرهابية وفق الأمم المتحدة مع الفصائل الإسلامية المعتدلة، كما الحال في إدلب وريف حماة الشمالي.
إخضاع وفد المعارضة في أستانة لشروط مكافحة الإرهاب يعني تفرّغ الفصائل المعتدلة لقتال المنظمات الإرهابية، وتحديدا “هيئة تحرير الشام” التي توجد جنبا إلى جنب مع الفصائل الأخرى، وهذا فخ روسي هدفه اقتتال الأقوياء، خصوصا في إدلب، حيث القوى العسكرية منقسمةٌ بين تيارين كبيرين، وهذا وضعٌ سيخدم النظام على المدى البعيد، ويخدم حزب الاتحاد الديمقراطي وتوجهاته الانفصالية.
وبالتالي، لا يمكن فصل محاربة الفصائل المعتدلة للفصائل الإرهابية عن التزام روسيا بوقف العمليات العسكرية بشكل تام لحلفائها، فمن دون ذلك لا إمكانية لنجاح المناطق الآمنة التي قد تتحول إلى ما يشبه الغيتوات العسكرية لفصائل المعارضة، وهي المناطق التي استعصت على النظام.
وتبقى المشكلة الكبيرة المتمثلة في المرحلة التي تسبق تطبيق المبادرة، إذ إن المبادرة لن تطبّق بين ليلة وضحاها، وستحتاج إلى وقت للاتفاق على تفاصيلها، وهو وقتٌ قد تستغله موسكو لترتيب أوراق الميدان، بما يخدم مصالحها.
المصدر : العربي الجديد