مقالات

عمار ديوب – مذكرة تخفيض التوتر والبراغماتية الروسية

أضاعت روسيا فترة حكم الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما! لكنها دخلت أبخازيا والقرم وسورية، وأحكمت الخناق على أوكرانيا، ولم تخضع للعقوبات الدوليّة عليها. ربما شجعت الانكفائية الأوبامية بوتين ليحلم بالهيمنة المنفردة على العالم. ولم تنتبه روسيا هذه إلى إمكانية التحوّل في الموقف الأميركي، وبالتالي صُدمت جراء التبدل في الموقف الأميركي من ترامب “صديقاً” للرئيس فلاديمير بوتين إلى ترامب رئيس دولة عظمى أولى في العالم، و”حاشراً” روسيا في إطار الدول الأقل مرتبة. فرض هذا الوضع على الروس التفكير مجدّداً في إعادة تشكيل خطّتهم بخصوص سورية. على الرغم من ذلك، رفضوا الخطة الأميركية: إنهاء “داعش”، وإخراج إيران، والذهاب نحو حل سياسي؛ لكنهم قبلوا فكرة المناطق الآمنة الترامبية والتركية القديمة، والتي وُقعت اتفاقيتها بعنوان تخفيف التوتر أو التصعيد، وقد دُعيت لها أميركا، وأُشركت فيها كل من تركيا وإيران، وكذلك السعودية وقطر، ورافق ذلك العودة إلى التنسيق مع أميركا بخصوص الطيران مجدّداً.

طبعاً، ستتيح هذه الاتفاقية لكل الدول التّدخّل في ترتيب الأرض السورية، فهناك الأميركان والبريطانيون والفرنسيون والأردنيون والسعوديون والقطريون والأتراك وآخرون، وطبعاً هناك الروس والإيرانيون، ومحاولة تعويم النظام، ودفع الحياة بأوصاله مجدّداً. تقول الاتفاقية إن روسيا لا تريد حلاً في سورية فقط، بل تريد اعترافاً بمصالحها العالمية، وربما السيطرة الكاملة على أوكرانيا، والتمدّد مجدّداً نحو أوروبا الشرقيّة. أهمية سورية بالنسبة لروسيا ليست نهاية المطاف إذاً، وبالتالي من أكبر الأخطاء قراءة المشهد السوري بمعزل عن التغييرات في المشهد العالمي والصراع بين الدول العظمى؛ وبمعنى آخر سورية الآن ورقة من جملة أوراق في إطار ذلك الصراع.

البراغماتية الروسيّة والتغيّر في هذا الموقف ليس فقط لتمرير الوقت، حتى تتضح السياسة الأميركية، ولكنه كذلك لتفرض روسيا نفسها قوة عالمية منافسة لأميركا، ولإعادة اقتسام العالم مجدّداً. تحظى تركيا الغاضبة من الدعمين، الأميركي والروسي، للأكراد، بمدينة كاملة، أي إدلب، لكنها لن تتراجع عن محاولاتها الدخول إلى الرقة، وطبعاً ستظل قوات صالح مسلم في نظرها إرهابيّة. ويفرض السعوديون والقطريون بدخولهم هذا دورهم لاعبين مباشرين في الساحة السورية. الأميركان والبريطانيون ملوكٌ يفرضون شروطهم بقوة قواعدهم العسكرية، ولهذا يأخذون الجنوب والشمال وقسماً من وسط سورية. وتعني هذه التطورات أن على روسيا أن تُحاصر إيران، فالأخيرة ومليشياتها مرفوضٌ وجودها في سورية. سيكون لروسيا حصتُها في سورية “المفيدة”، وفي دير الزور وحلب ودمشق وحمص وطرطوس واللاذقية. ولكن، هل هذا يعني بداية تقسيم كما يطرحُ رأيٌ “متلهوج”؟. التدخل الإقليمي والدّولي الواسع سيفرض خروج إيران وتهميش النظام، وليس فقط الفصائل الموضوعة ضمن كانتونات مناطق التخفيض، والمُسيَجة بقواتٍ إقليمية؛ وهذا ربما سيدعم مواقف روسيا ضد إيران والنظام، وسيطمئنها إلى أن “نظامها” باقٍ، وأنّه سيكون ضمن تركيبة الحكم المستقبليّة، والتي ستكون في مرحلة لاحقة، وإنْ ليس في وقتٍ قريب؛ يمكن ذلك فقط إن ضغط الأميركان لإنهاء القضية السوريّة. إذاً: السياسة الروسية حالياً هي تخفيض التوتر للتوصل إلى حلولٍ للقضايا الدولية التي تختلف فيها مع أميركا وأوروبا.

تتحرك روسيا بسياسةٍ عالميّة للعودة للهيمنة الدّولية، ولكنها تنفتح على أيّة تطورات واقعية تفرض نفسها؛ ولهذا فورقة التخفيض مطلبٌ أميركيٌّ وتركيٌّ في عُمقه، وإن كان عبر طرحٍ روسيٍّ. روسيا معنية بفكّ علاقتها مع إيران، والضغط على النظام، ولكنها، وبفعل ورقتها هذه، أَجّلت هذا، وخففت من الضغط الأميركي، وأعادت سياستها إلى الواجهة مجدّداً، أي محاربة الإرهاب، وإنقاذ النظام، وليس السّير بتحقيق السلة الأميركيّة كاملة، أي محاربة “داعش” وإخراج إيران والحل السياسي.

عنوان المقال يَشطبُ المعارضة السوريّة. تقول الحقيقة إن النظام والمعارضة لم يُوقّعا على مذكرة تخفيض التوتر، وبالتالي، تُعلن المذكرة هيمنةً إقليميّة ودوليّة. وبمصطلح آخر، هناك انتداب واحتلال لسورية ومعلن، وبوثائق كذلك. والسؤال هنا: أين المعارضة والنظام؟

أصبح النظام يعي دوره قوة تابعة للروس بشكل أساسي، وهذا منذ 2011، ومناوراتُه طوال الأعوام السابقة متأتيةٌ من اللاعب الإيراني، فهو أيضاً يريد حصة له في سورية، وبذلك “يلعب” النظام بين المتنافسين عليه!.

وجود إيران إحدى الدول الضامنة مذكرة التخفيض لا يعطيها أيّة قوة إضافية، أو يشرعن وجودها في سورية؛ فهي هناك ضمن إطار مرحلي سينتهي، كما تقول المذكرة نفسها، بالحل السياسي، أي ضمن المداولات العالمية عن الحل، وسينتهي بإخراجها. المعارضة المهمّشة عبر “أستانة” وإهمال “جنيف” وتخفيض قيمة هيئة التفاوض، تحاول تغيير بعض الوجوه، كالإتيان برياض سيف، وهناك لقاء القاهرة وهناك أوراق تُنشر تباعاً؛ التعدّد هذا وإبقاء الشخصيات المُفلسة ذاتها معبرةً عن المعارضة يدلّل على أن لا استقلاليّة للمعارضة، وأن دورها محددٌ فيما يرسم لها إقليمياً ودولياً، وهي بذلك كما النظام تماماً.

نعم، استنقع الصراع في سورية تماماً. لم يعد، في الوقت الحالي، أيُّ دورٍ لقوة وطنية مستقلة، عدا عن أن القوى الوطنية مجموعات مهمشة، وفاقدة أي مشروع بديل، وليس فيها أيّة كاريزميات، ويكاد حضورها يقتصر على المجموعات نفسها. أيضاً الشعب بما تبقى من مؤسساته الثورية مهمشٌ كليا، ولا يثق لا بالمعارضة، ولا بالقوى الوطنية هذه، وينتظر معجزة، ولن يرفض مذكرة التخفيض هذه، وربما يجد فيها خيراً يحظر الطيران الروسي والنظامي، ويخلصه من موتٍ محققٍ وعبثيٍّ ويوميٍّ.

إذاً لا حلّ سياسيا قريبا، وربما هناك مزيد من التدعيم للنظام والتفرّغ لحرب “داعش” وجبهة النصرة، وهناك إشعالٌ لحروب داخلية بين الفصائل، كما يتم في الغوطة منذ أكثر من أسبوع، وسيتكرّر الأمر نفسه في إدلب، وربما في درعا، وهذا سيقوي دور الدول المتدخلة، وسيدفع كل القوى السورية من نظام وقوى عسكرية نحو محاربة الجهادية والخضوع أكثر فأكثر للدول الإقليمية والدولية. تخفيض التوتر هذا يُدخل الدول، بقواها العسكرية المباشرة، وبالتالي لم يعد للسوريين أيّ دور في مستقبلهم.

على الرغم من ذلك، يتركز التعويل الآن على القوى الوطنية، وأن تستعيد ذاتها وبمشروعٍ وطنيٍّ، ولصالح كل السوريين. هل يمكن تشكيل هذا المشروع؟ نقول هذه هي المهمة الوحيدة الآن.. المبكي هنا أنّها لن تتحقق حالياً. سورية في مهب الريح بكل بساطة.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى