زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية، ستشكّل معلما أساسيا في قراءة التطورات الاستراتيجية على مستوى المنطقة العربية والشرق الأوسط على وجه الخصوص، فالقمم الثلاث التي نظمتها الرياض؛ الثنائية مع واشنطن، والقمة الخليجية الأميركية، والقمة الإسلامية العربية الأميركية، سوف تؤسس لمرحلة جديدة عنوانها إعادة استنهاض الحلف الأميركي التقليدي في المنطقة الذي بدا أنه اهتز وتراجع منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 وزاد في التصدّع مع السياسة الأميركية التي قادها باراك أوباما والتي كان من أبرز سماتها التقارب مع إيران على حساب الحلفاء التقليديين في المنطقة العربية.
نتائج القمم الثلاث التي شهدتها السعودية والتي يتقدمها توقيع عقود بمئات المليارات من الدولارات بين واشنطن والرياض، ترجمت إلى حد بعيد نوعا من الشراكة الاستراتيجية التي ضمنت للرياض دورا محوريا في السياسة الأميركية على مستوى المنطقة العربية والإسلامية يحظى بدعم واشنطن، ووفرت للإدارة الأميركية الجديدة مكسبا سياسيا واقتصاديا سيساعد الرئيس الأميركي في مواجهة خصومه داخل الولايات المتحدة الذين لا يزالون يشكّكون بأهليته في السلطة.
إلى هذين المستويين من الفوائد بين الرياض وواشنطن، يُمكن التركيز على جانب محوري يهمُّ المنطقة والعالم المتمثل في محاربة الإرهاب، فقد نجحت الرياض في بلورة رؤية مشتركة مع واشنطن حول محاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم داعش، وفي التقدم خطوات مهمة لبلورة رؤية مشتركة تجاه النفوذ الإيراني وضرورة الحد من هذا النفوذ وامتداداته في المنطقة العربية.
صحيح أنّ ترامب تحدث بوضوح عن خطر هذا النفوذ وطالب الرئيس الجديد المنتخب في إيران بتفكيك المنظمات العسكرية والأمنية لإيران في الدول العربية، لكنه في المقابل دعا حلفاءه وفي مقدمتهم السعودية إلى أن يكونوا في مقدمة المواجهة، وألا يراهنوا على عودة أميركا عسكريا إلى المنطقة، لكنه شدد على التأكيد أنّنا معكم وسندعمكم.
الملفات المتعددة التي جرى بحثها في القمم الثلاث، تجعل المراقب أمام ما يشبه التأسيس لمرحلة جديدة على مستوى المنطقة العربية، إيران عنصر محوري فيه، فالإدارة الأميركية ومن خلال الاتفاقيات التي عقدتها، تُضيّق الخناق على إيران، فهي من جهة فتحت نافذة للتفاهم من خلال إتاحة الفرصة مجددا لها لأن تكون عنصرا من عناصر استعادة الاستقرار بشرط العودة عن سياساتها الأيديولوجية في المنطقة، ومن جهة أخرى لوّحت بصفقات التسلح ودعم خصوم إيران بقوة في حال استمرت طهران على نهجها في ما يسمى تصدير الثورة.
لذا كان ترامب حاسما تجاه تصنيف حزب الله في خانة الإرهاب وساوى بينه وبين تنظيمي القاعدة وداعش كما صنّف حركة حماس في نفس الخانة، وهذا مؤشر على أن ترامب يميز بين إيران وأذرعها ولا سيما حزب الله، فالرئيس الأميركي لم يذهب كما ذهب سلفه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن إلى وضع إيران في خانة محور الشر، لكنه في المقابل لم يراعِ السياسات الإيرانية في المنطقة كما فعل سلفه باراك أوباما، الذي في عهده جرت أكثر من عشرة لقاءات بين وزيري خارجية إيران وأميركا خلال أقل من سنتين وهذا ما لم يجرِ في تاريخ العلاقة بين الدولتين، بل وصل الأمر إلى أن اعتبر وزير خارجية أميركا جون كيري أن وجود حزب الله في سوريا لا يضر بالمصالح الأميركية.
القرار بضرب أذرع إيران في المنطقة العربية بالتوازي مع القضاء على “الإرهاب السني” هو الأكثر وضوحا في نتائج القمم في الرياض وفي خطاب ترامب الذي لم يميّز بينهما هذه المرة، وبالتالي فإن أهمية توقيت إعلان الرياض الأميركي السعودي، أنه رسم معالم طريق تجاه تطويق أذرع إيران بالتوازي مع ضرب الإرهاب، بحيث لم يجرِ التمييز بين الأمرين ولم يكن هناك أي محاولة لتحديد أولويات، بل يمكن توقع مجريات عسكرية على الأرض مختلفة عما سبق وستبدو هذه المرة أكثر تشددا ضد حزب الله.
أمّا لماذا حزب الله؟ فلأن الحزب كما كان خلال العقود السابقة يد القوة لإيران في المنطقة، هو اليوم الحلقة الأضعف والخاصرة الرخوة لإيران في المنطقة، فمبررات ضرب حزب الله في سوريا هو أنه أقل كلفة استراتيجية بالنسبة للأميركيين وحلفائهم سواء في المحيط العربي أو لدى الكيان الإسرائيلي، ذلك أنّ تورط حزب الله في الدم السوري، جعله بمثابة العدو الأول لمعارضي الأسد، فيما إيران التي أوصلت الرئيس حسن روحاني إلى سدّة الرئاسة مجددا، تقول من خلال هذه النتيجة أنّها تقدم خيار التسوية مع الشيطان الأكبر على خيار المجابهة معه، وبالتالي فإنّ حزب الله سيكون أقرب إلى أن يكون ورقة من الأوراق التي يمكن لطهران أن تساوم عليها وعلى طبيعة دورها ونفوذها لكي تخفف من الخسائر التي يمكن أن تطالها مباشرة.
الصورة تتضح أكثر والأرجح أن إيران وصلت إلى مرحلة حاسمة لجهة عسكرة نفوذها في المنطقة، فهي أمام خيار الإصرار على عسكرة نفوذها وبالتالي الاستعداد للمزيد من الإجراءات العدائية من محيطها ومن واشنطن، أو الذهاب نحو المساومة على هذا النفوذ عبر التضحية بأذرعها العسكرية لصالح مساحة من النفوذ السياسي وهذا قد لا يكون متوفرا على طول الخط إذا ما ضيعت إيران الفرصة المتاحة، ولم ينجح الرئيس الجديد في بلورة صفقة سياسية مع واشنطن بسبب تعنت جهات محافظة داخل النظام.
حزب الله الحلقة الأضعف في هذه المواجهة، والأرجح أن إيران اليوم هي بين خيار الاستمرار في دعم نظام الأسد وبالتالي تحمل تداعيات هذا الخيار على وجود حزب الله ليس في سوريا فحسب بل في لبنان أيضا، أو امتصاص الهجمة الأميركية السعودية بالمزيد من الانضواء تحت السقف الروسي والالتزام بشروطه، وتلقي المزيد من العقوبات الاقتصادية والمالية التي لا مناص منها على ما تشير الإجراءات الأميركية المستمرة ضده وكان آخرها إدراج الشخصية الثانية في حزب الله هاشم صفي الدين على لوائح الإرهاب الأميركية والسعودية عشية زيارة ترامب إلى الرياض.
الفخ السوري يُطبق على حزب الله وليس في وسع الحزب تحمل أي تهديد جدي إقليمي أو دولي في سوريا، ولن يجد هذه المرة أي دولة عربية مستعدة للتضامن معه في ما لو تم استهداف قواته في هذا البلد حتى لو كانت إسرائيل هي الطرف الذي يستهدفه، علما أن الضربات الإسرائيلية المحدودة له لم تتوقف في سوريا من دون أن يقابل ذلك أيّ رد فعل مستنكر من قبل أيّ جهة عربية يعتد بها ولا حتى جهة إسلامية كما كان الحال في عقود سابقة عندما كان يتعرض لضربات عسكرية إسرائيلية على الأراضي اللبنانية.
حزب الله سيعلن قريبا سحب قواته من سوريا بطلب من الحكومة السورية أو بذريعة أخرى، لكن هذا الإعلان سيكون مرتبطا بنوع من الضمانات التي لا تجعله عرضة لضربة عسكرية في لبنان قد تقوم بها إسرائيل، وتضمن حماية الحدود مع سوريا ولو بقوات دولية وهذا ما مهد له قبل أسبوعين حينما أعلن تسليم نقاط تمركزه على هذه الحدود للجيش اللبناني، في المقابل ثمة خيار آخر هو الانتحار عبر فتح المجابهة مع إسرائيل. الانتحار الذي بات يؤذي إيران هذه المرة ولا يفيدها، علما أنّ حزب الله الذي بات محاصرا بالأعداء الذين برع في صناعتهم سواء في الداخل اللبناني أو المجتمع السوري أو العرب على وجه العموم صار بحكم الوقائع الاستراتيجية رهينة إسرائيل بعدما كان ذراعا إيرانية تزعج إسرائيل قبل سنوات.
العرب