مقالات

د. سعيد الشهابي –  نكسة 67: خمسون عاما من التراجع العربي

حالة الغضب والاحباط التي ألمت بالجيل العربي الذي عاش مرارة النكسة في مثل هذه الايام قبل خمسين عاما كانت شديدة، ولكنها لم تكن موجهة بشكل واضح او واحد. فقد وجهت نحو كيان الاحتلال الذي كانت قواته، بقيادة موشي ديان، تخطط لمباغتة الجيوش العربية، ولكنها وجهت ايضا لزعامات الدول العربية التي كان عليها ان تتحمل جانبا كبيرا من مسؤولية الاهمال وغياب خطة الحرب المتكاملة.

يومها كان الموقف العربي يتسم بالوحدة، وكانت فلسطين تمثل للجميع قضية محورية ومركزية. وبموازاة ذلك كان الوجدان الشعبي معاديا للولايات المتحدة الامريكية التي كانت الداعم الاكبر للاسرائيليين. الجيل الذي شهد مفاعيل تلك الحرب يقترب من الانقراض، ومن بقي منه كان شابا يافعا تولدت لديه يومذاك آمال كبيرة بالتحرير والنصر، ثم تحطم ذلك كله في العاشر من يونيو (حزيران) 1967 عندما اتضح ان الجيوش العربية منيت بهزيمة ساحقة، وان الرئيس جمال عبد الناصر اعلن عزمه على الاستقالة بعد تحمله مسؤولية الهزيمة. كان الرئيس المصري مصدرا للأمل لدى الكثيرين، فهو زعيم المشروع القومي العربي الذي امتد من المحيط الى الخليج والذي عبر عنه الشاعر: من المحيط الهادر، الى الخليج الثائر، لبيك عبد الناصر. وتحت هذا الشعار كانت «القوى التقدمية العربية» تأمل ان تحقق اول انتصار حقيقي في المواجهة مع «اسرائيل».

كانت الظروف العامة توحي بامكان سحق قوات الاحتلال خصوصا بعد تجربة العدون الثلاثي على مصر في 1956 التي انتهت بارغام الاسرائيليين على الانسحاب من منطقة السويس، بعد ان طلبت الولايات المتحدة من قوى العدوان البريطانية والفرنسية والاسرائيلية. عبد الناصر وخطاباته كانا مصدرا لالهام الجيل الشاب آنذاك الذي كان مؤدلجا ومسيسا ومثقفا بدرجة كبيرة. بل ان ذلك الوعي وصل لكبار السن ايضا، الذين كانوا يرفضون الهيمنة الامريكية على العالم. وتعمق العداء لامريكا بعد تلك الحرب بسبب دورها الداعم للاسرائيليين. يومها كان الوعي الشعبي واضحا في دعم المقاومة الفلسطينية المسلحة التي انطلقت قبل ذلك بعامين واصبحت تستهدف الكيان الاسرائيلي بعمليات نوعية لم تتوقف، الامر الذي دفع الاسرائيليين للاستعداد لاجتياح سوريا ومصر اللتين كانت المقاومة تنطلق منهما. ومن المؤكد ان انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني الذي ادى الى ما سمي «حرب الاستنزاف» في الحقبة الفاصلة بين حربي 67 و 73 ساهم ايضا في تعميق الوعي الثوري لدى قطاعات واسعة من الشباب. بل ان المحللين والكتاب ما يزالون يؤكدون ان استمرار القضية الفلسطينية معلقة بدون حل من بين عوامل التوتر في المنطقة وانها من اسباب ظهور حركات المعارضة والمقاومة.

اداء الجيش المصري كان دون الطموح، فقد تمت تصفية اغلب طائراته في اليومين الاولين من العدوان الاسرائيلي، كما دمرت طائرات سورية واردنية وعراقية عندما سعت للرد على القصف الاسرائيلي لمصر. ووفرت الولايات المتحدة جسرا جويا لنقل المعونات العسكرية للقوات الاسرائيلية، واتضح للرأي العام العربي ان امريكا واقفة تماما مع «اسرائيل» وانها اصبحت طرفا مباشرا في الحرب. وفي اجواء الحرب الباردة التي كانت في ذروتها، كان هناك حالة استقطاب دولية، فالدول والاحزاب الاشتراكية في العالم وقفت مع العرب، بينما دعم الغرب الامبريالي الكيان الاسرائيلي بشكل مكشوف. وشعر العرب انهم مستهدفون حقا من التحالف الغربي، ولذلك اصبحت اجيال تلك الحقبة مسيسة ومؤدلجة بعمق. فكانت تقف مع حركات التحرر في امريكا اللاتينية وافريقيا، وتردد اسماء رموز التحرر الوطني في العواصم العربية، باتريس لومومبا (الكونغو)، كوامي نكروما (غانا) ونيلسون مانديلا (جنوب افريقيا) بالاضافة لرموز امريكا اللاتينية وفي مقدمتهم فيدل كاسترو (كوبا) وتشي غيفارا (الارجنتيني الاصل الذي قتل في غابات بوليفيا). واستمر التفاعل الشعبي العربي مع القضايا الدولية التي كانت الولايات المتحدة طرفا مباشرا فيها، ومن ذلك الحرب الفيتنامية التي انتهت في 1975 بنتيجة غير مشرفة لها. خلال تلك الحرب كان الرأي العام العربي يقف مع الثوار الفيتناميين، ويتابعون عمليات «فييت كونغ» بشكل متواصل، ولا يخفون تعاطفهم مع الشعب الفيتنامي خصوصا بعد ان اصبحت امريكا طرفا مباشرا منحازا في الصراع العربي ـ الاسرائيلي. ومع ان مصر خاضت بعد ذلك بستة اعوام حرب اكتوبر واستطاعت استعادة شيء من المصداقية، الا ان الاداء الضعيف للجيوش العربية في نكبة 1948 ونكسة 1967، هز القناعات العامة وادى لتحولات ايديولوجية لاحقة، وأسست لولادة ظاهرة «الصحوة الاسلامية» التي انطلقت في غضون بضع سنوات.

تفصيلات الحرب متوفرة بشكل واسع، ولكن المهم في الامر الاطلاع على الواقع العربي يومذاك، وكيف ان تلك الحرب ساهمت في تغيير مسار الصراع العربي ـ الاسرائيلي حتى اليوم. فقضية فلسطين التي كانت محورا اساسيا في الواقع العربي منذ قيام دولة الاحتلال في 1948 يصعب تغييبها عن المشهد السياسي العربي، او التحالفات التي تقوم في المنطقة، او حتى على توجه العمل العربي المشترك خصوصا في اطار الجامعة العربية. هذه الجامعة هي الاخرى شهدت تحولات في توجهاتها. فعندما كانت تحت تأثير مصر عبد الناصر، سعت السعودية لمواجهة نفوذها ودورها بمشروع آخر تمخض في 1970 عن تأسيس «منظمة المؤتمر الاسلامي». وفي قمة بيروت في العام2001 برهنت السعودية على عمق نفوذها بطرح مبادرتها لاحلال السلام بين العرب و«اسرائيل» بطرح ما سمي «المبادرة العربية» التي اقرتها القمة واصبحت المشروع الاساس الذي يتم التداول فيه بين الدول العربية والكيان الاسرائيلي. وما تزال بنود كافة المبادرات تتمحور حول نتائج نكسة حزيران وفي مقدمتها السيطرة الاسرائيلية سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السورية. الامر الذي اضعف تلك المبادرة توجه السعودية ومعها بعض الدول الاخرى كالامارات والبحرين للتطبيع العملي مع الاسرائيليين خارج اطار تلك المبادرة. وتواصل ذلك التطبيع في السنوات الاخيرة بوتائر واضحة من بينها تبادل الزيارات وتنسيق المواقف والتعاون العسكري والامني والتصدي للحركات الاسلامية واعادة توجيه الانظار العربية على المستوى الشعبي بعيدا عن قضية فلسطين.

بعد نصف قرن على النكسة تحول الصراع العربي ـ الفلسطيني ليكون بين طرفين: احدهما يسعى لتحرير فلسطين ويصر على اولوية التحرير وكسر شوكة الاحتلال، والثاني يسعى لحصر القضية بالتفاوض على ما تبقى من الاراضي التي احتلها الاسرائيليون في 1967. هذه الاراضي تقلصت كثيرا نتيجة الاستمرار في بناء المستوطنات امام غياب المبادرات الجادة للحل، وسعي البعض لتجاهلها والاستعجال بالتطبيع مع «اسرائيل».

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى