لم يحدث أن تعرّض لاجئون في العالم من إهاناتٍ وانتهاكاتٍ وارتكاباتٍ بحقهم، مثلما تعرّض له اللاجئون السوريون في لبنان. وليس تعذيب لاجيئن سوريين في مخيمات عرسال وسواها سوى حلقةٍ في سلسلة التعذيب البشعة التي ارتكبت بحق سوريين كثيرين، سواء من عصابات النظام الأسدي وجيشه، أم من مليشيا حزب الله اللبناني ومن يلفّ في فلكه، أم من مليشيات نظام الملالي الإيراني، أم مليشيا “وحدات حماية الشعب” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، أم من جنود النظام الروسي، نظام بوتين، وسواهم، فالجريمة واحدة، والمستهدف هو ذلك السوري، روحاً وجسداً وأشلاء.
وإن كانت الصور الفظيعة لمن قتلهم جنودٌ من الجيش اللبناني أو مخابراته تحت التعذيب، قد أثارت سخط القوى الحيّة في العالم، إلا أنها تثير أكثر من سؤال عن المعنى والخصوصية في قتل سوريين، مدنيين وعزّل، وتكشف مستوى الانحطاط الذي وصلت إليه الطائفية السياسية في لبنان، بعد أن اختطفته واغتصبته، تنفيذاً لأوامر نظام الملالي الإيراني، ووليه الفقيه القابع في طهران، ونصّبت قادةً ممن تريد على بلدٍ كان يضرب فيه المثل بالحريات، إبان ستينيات القرن المنصرم وسبعينياته، من أمثال السيد والجنرال وصهره ووزيره نهاد المشنوق وسواهم، ممن باتوا يتحكّمون بمصير لبنان واللبنانيين، وأقحموهم في حربٍ قذرة دفاعاً عن استبداد نظام الأسد، بل يتعدّى الأمر ذلك، ليكشف مستوى انحدار الطائفية السياسية اللبنانية إلى مستوىً مهين من التوحش واللا إنسانية، ليطرح أسئلةً عن الفكر الطائفي المهيمن فيها، فكر الذين سوّقوا الحرب إلى جانب نظام طائفي فاشي، وأوصلوها إلى محطةٍ قصوى من العذاب الإنساني ومع علمنا أن العصبوية، شوفينية كانت أم طائفية، تحمل على الدوام ألواناً عديدة من التعذيب والقهر، إلا التعذيب الذي حلّ باللاجئين السوريين يحمل خصوصية ومعنىً لا يمكن تجاهلهما، ويشكّل جزءاً من المعاناة اليومية لغالبية السوريين في بلادهم وخارجها، من امتهانٍ للكرامة وقتل وسلوك متعسّف وجرائم عديدة ارتكبت بحقهم على مرأى العالم، وبتواطؤ من قادة المجتمع الدولي وأنظمته.
ويبدو أن عذابات غالبية السوريين في لبنان لم تنته بعد، كونها لم تتغيّر قبل اللجوء وبعده، إذ إن وحشية الممارسات التي كانوا يتعرّضون لها من أجهزة نظام الأسد وشبيحته انتقلت إلى أجهزة حزب الله والعونيين ومنتسبي الحزب القومي وسواهم من الذين سخروا أنفسهم مرتزقة خدمةً لنظام الإجرام الأسدي الذي عانى من بطشه غالبية اللبنانيين من قبل، ثم حوّل أكثر من نصف سكان سورية إلى نازحين ولاجئين. ولم يشفع لهؤلاء الذين تركوا بيوتهم وراءهم، أملاً في الخلاص من القتل، وتحمّلوا تبعات العيش في خيمٍ لا تقيهم برد الشتاء ولا حر الصيف. ولم تحمهم من الاعتقال والملاحقة، بل وجدوا أنفسهم في معسكرات اعتقال كبيرة، أشبه بمعسكرات الاعتقال النازية، حيث الظروف المعيشية مهينة جداً، وحيث القهر والظلم والإذلال والاعتقال والتعذيب، فأي مشاعر ستتولد لدى هؤلاء الثكالى والمقهورين؟
غير أن مشاهد القتلى الذين سلمهم الجيش اللبناني إلى أهلهم، ومنع ذويهم من رؤية أجسادهم ومعرفة أسباب قتلهم وظروفه، ومن بينهم شاب مقعد أعادوه أشلاء مقطعة، يعكس النقطة الحرجة أو المدى الأقصى الذي وصل إليه المشروع الطائفي في لبنان، من حيث أنه بدأ بحملة أكاذيب وألاعيب هائلة، تمهيداً لإجبار اللاجئين على العودة إلى مناطق سيطرة النظام الأسدي، بعد أن أجبر حزب الله قسماً كبيراً منهم على اللجوء، ومغادرة أماكن عيشهم، والمفارقة أن معظم هؤلاء اللاجئين هم من استقبل اللبنانيين الذين تسبب حزب الله في لجوئهم إلى سورية عام 2006، وبدلاً من رد الجميل لهم، أنكره، بل وأمعن هذا الحزب في وقوفه مع نظام الأسد في الحرب البشعة ضد هؤلاء، وضد غالبية السوريين، تحت مختلف الذرائع واليافطات المزيفة.
ولعل من المخزي أن يلفّ صمتٌ ثقيلٌ هذه الممارسات بحق السوريين، بل وينبري بعضهم دفاعاً عنها أو تبريراً لها، بدعوى ملاحقة الإرهابيين، مع العلم أن الإرهابي هو من حوّل هؤلاء إلى لاجئين، وهو من ينتهك حرمة الجسد البشري الذي يعتبر احترامه معياراً لوحدة البشر حول القيم الإنسانية المشتركة، لكن ما حصل في مخيمات عرسال ضرب تلك الحرمة، إذ حولت عناصر الجيش اللبناني، المدفوعين بلا شك من حزب الله، أجساد اللاجئين الشباب الممدّدة على الأرض إلى حالةٍ من الإخضاع الجسدي، وحالةٍ من الانتهاك والعنف، عبر ممارساتهم لانحرافاتهم الطائفية، ولصورهم النمطية والكراهية والعنصرية. وهي ممارساتٌ تؤكد السيطرة الجسدية للقوة، بغية إذلال الآخر، الضعيف، وما ينشأ عنه من حقٍّ زائف في التعذيب والتمثيل بأجساد الآخرين.
وتُرجع صور أجساد الرجال والشباب العراة، والمقيدي الأيدي، والمبطوحين على الأرض، إلى الذاكرة صور مختلف الكومات البشرية لجثث القتلى في جميع معسكرات الاعتقال وحروب الإبادة التي خاضتها القوى المسيطرة في العالم الحديث، وربما لن يكفي تفسير مثل هذه المشاهد القول بانفصال الإرادة عن العقل، وتحوّل الأخير مجرد أداة، بل يجب البحث عن محتوىً يتسع لكلّ هذا الكمّ المرعب من العنف الجسدي، بدءاً من حروب إبادة الهنود الحمر، وحتى حروب الإبادة في البلقان وفي مناطق عديدة من إفريقيا وفلسطين. لكن المحيّر هو في خصوصية التعذيب الجسدي الذي يولّد نوعاً من لذة الاستمتاع في التسبّب في الألم لجسد الآخر، وهي خصوصية تتجسّد في كراهية الجسد والحقد عليه، وتكشف مركب نقصٍ تعويضيٍّ عن عمليات التحقير والإهانة والإذلال.
لن تُمحى بسهولة صور الأجساد المهزومة في مخيمات عرسال وسواها، تلك الأجساد المهانة، ولن تُمحى كذلك وجوه الجنود الهازئة وقهقهاتهم والممتهنة كرامة الضحايا. غير أنه لا يمكن المساواة بين الجلاد والضحية، ولا يمكن الاكتفاء بالنظر إلى ضحايا الطائفية السياسية اللبنانية، بل يجب أن يطاول الاتهام كل مسوّقي الصور النمطية عن الآخر، لأن الأمر يتعلق بالعقلية العنصرية لدى بعض اللبنانيين، لكن المؤسف أن يتفرّج العالم على تلك الصور من دون حراكٍ أو تحقيق دولي لإحقاق الحق.
إنه عار أمام الضحايا، وعار أمام إنسانية الإنسان. عار الفكر حين يغوص في مستنقع معياريته الخاصة، فكر العنصريين الطائفيين وسواهم أينما وجدوا. إنه عار هذا الزمن العربي المفتوح على الاستبداد والهزائم والدمار، وعار القتلة بإنسانيتهم. عارٌ أمام الضحايا، وعارٌ أمام الإنسانية، وعارٌ أمام إنسانية الإنسان؛ فكلهم مسؤولون عن الضحايا ومسؤولون أمام الضحايا. عارٌ يطاول كلّ من يحاول التستر على الجريمة، ويساوي بين الضحايا والقتلة. إنه “الخليط المشوب أو التجاور المشوب” كما يقول نيتشه، حين ينحطّ الفكر السياسي الطائفي في وحل معياريته، ويكاد يقترب أحياناً من صورة حيوانٍ يحتضر أكثر مما يقترب من صورة إنسان حيّ.
إنه عارٌ نلمسه في الحالات القصوى للفكر الطائفي، يمتد إلى الحالات المبتذلة الملازمة له. لكن، على الرغم من كل المجازر، نستشعر حالة خلق جديدة، ونشترك مع كل المناهضين للعنصرية والطائفية، كي تظل دماء السوريين شاهداً على هذا العصر، عصرنا التجاور المشوب، بانتظار أن تتحقّق العدالة الإنسانية، ويرجع الحق إلى أصحابه.
المصدر : العربي الجديد