الزخم الدائر حول سورية والذي تتم ترجمته على شكل تفاهمات واتفاقات بين الأطراف الدولية والإقليمية، يثير شعوراً بوجود عملية سلمية حقيقية في سورية، بخاصة أن تلك الاتفاقات تترافق مع تهدئة على الجبهات، الأمر الذي يمكن اعتباره مؤشراً قوياً على وجود عملية سلام حقيقية.
حسناً، أين المشكلة في ذلك؟ لا يعتبر هدوء الجبهات في الصراع السوري، مؤشراً على دخول الأطراف في عملية سياسية بمقدار ما يعني أن الأطراف السورية باتت خارج القدرة على تقرير مسارات الحرب والسلم وأصبحت خيوطها ممسوكة بالكامل بيد الخارج الذي يقرّر متى يجب ان تشتعل الجبهات وكيف ومتى يجب ان تهدأ، فالأطراف السورية، نظاماً ومعارضة، تلبست رتبة الوكلاء المنفذين لمدير خارجي، بدليل ان جبهة جنوب سورية صمتت أكثر من سنة ونصف السنة قبل ان تنفجر ثم تدخل بعد ذلك في هدنة، بمعنى ان اشتعال الجبهات في سورية ليس تلبية لحاجة أحد أطرافها ولا انعكاساً لتوترات داخلية.
من جهة ثانية، لا يعني توافق الخارج على هدنة، او هدنات تكتيكية، أن ثمة عملية سلام جارية وفق مسار تصاعدي وستصل في مرحلة قريبة إلى نقطة الذروة التي توقع الأطراف عندها اتفاق سلام نهائياً، بمقدار ما يؤشر الى وجود صفقات تخص اللاعبين الخارجين على ساحة اللعب ومؤامرات على حساب أطراف أخرى، وبالتأكيد ليس اللاعبون السوريون هم أحد تلك الأطراف.
جميع الاتفاقات والتفاهمات التي حصلت في سورية كانت تستهدف طرفاً خارجياً معيناً. اتفاق آستانة بين روسيا وتركيا وإيران كان الهدف منه تهميش اللاعب الأميركي وإخراجه من اللعبة، أو على الأقل الضغط عليه للمشاركة تحت سقف تلك الأطراف، واتفاق جنوب سورية الهدف منه إخراج إيران من مساحة تأثير لإدخال أميركا فيها، وفي كل الحالات كان الخطاب الدولي والإقليمي المبرّر لهذا التعامل بالقطعة مع الأزمة السورية يركّز على مقولة ان الأزمة معقّدة لدرجة ان الطرح الواقعي للحل يجب ان يمر عبر محطات كثيرة ومراحل متعدّدة.
والملاحظ هنا ان القول بتعقيد الازمة وإن كان المقصود به أن العداء بين الاطراف الداخلية في سورية أصبح معقّداً الى درجة ان تفكيكه بات يتطلب وقتا وجهداً استثنائيين، إلا ان ظاهرة تهميش السوريين الواضحة تثبت ان التعقيد في مكان آخر، فما دامت الأطراف الدولية والإقليمية تتفاوض من دون حتى استشارة الأطراف السورية ومن دون اخذ مواقفها بعين الاعتبار فإن الصراع والتفاوض في سورية انتهيا إلى شأن خارجي صرف.
لا شك في أن هناك تغيراً واضحاً في سياق الأزمة السورية يتمثل بانتهاء الجزئية الخاصة بالصراع الداخلي، وباستثناء جبهة غوطة دمشق وبعض مناطق البادية سكتت المدافع على بقية الجبهات، بانتظار ما ستؤول إليه عمليات التفاوض، ليس تلك التي بين السوريين في جنيف وآستانة، وإنما ما يدور في عواصم القرار الكبرى، وخصوصاً في واشنطن وموسكو.
والحاصل الآن، وكما هو واضح من هذا الحراك أن المرحلة الحالية هي مرحلة خلق توازنات جديدة تسبق جلوس الأطراف من اجل الحل النهائي، وتقوم هذه التوازنات التي يجري رسمها بمسطرة دقيقة ووزنها بميزان حساس للغاية على إعادة تقويم سورية من ناحية جغرافيتها السياسية وتأثيراتها الإقليمية وحساب قيمتها النهائية مقسومة على أطراف محدّدة وإعادة توصيف الأطراف وتحديد حصصها بناء على حجمها في المعادلة الدولية وحقيقة قدراتها.
ولا شك في أن هذه العملية ستتطلب إعادة توزيع الحصص، وهذا ما هو حاصل بوضوح ومن دون مواربة في هذه المرحلة، حيث يتكشَف أن الدخول الأميركي، وقبله الروسي، يقضم من حسابات أطراف أخرى وحصصها، نظراً إلى حاجته إلى أصول إستراتيجية أكبر تغطّي تدخله وتجعله يليق بدول كبرى، والأطراف التي يجري قضم حصصها هي:
– حصة إيران، التي ظهر انها أخذت أكبر من حجمها بكثير وبما لا يتفق مع قوتها، إقليميا ودولياً، وبخاصة لجهة تمدّدها على خطوط حساسة، مثل الحدود مع الأردن واسرائيل والعراق، وهي قضايا أكبر من طاقة دولة إقليمية وصلاحياتها مهما علا شأنها، كون تداعيات قضية كهذه ستكون لها تأثيرات دولية كبيرة، وبالتالي فإن الحصة الإيرانية يجري حصرها حتى اللحظة في البادية السورية بعيداً من الحدود إلى حين.
– الحصَة العربية، بعد تراجع التأثير العربي الذي شكلته دول الخليج في شمال سورية وجنوبها. والذي تسبب بخروج التأثير العربي، إثر الارتباك في إدارة النفوذ والخلاف بين الأطراف، بوجود مساحات فراغ بعضها ملأته تركيا في شمال حلب والقسم الآخر سيطرت عليه الميليشيات الإيرانية قبل دخول أميركا وإجبار إيران على التراجع.
على وقع هذه التطورات، يجري الحديث عن توافق أميركي– روسي على الاتفاق على منطقة جديدة سيتم إدماجها ضمن تسوياتهما، أو إعادة محاصصتها، بما يعني ان المحاصصة تتحول إلى دينامية تشتغل على كامل مساحة سورية.
اذاً التكتيك المعمول به حالياً في سورية هو إدارة الصراع لا حله، وفي إطاره يجري التفاهم على الحصص وترسيمها، وبعد اكتمال هذه المرحلة سيتم الاتقاق على شكل الدولة ونظام الحكم، وفي الغالب ستكون بين خيارين لا ثالث لهما: إما فيدرالية فضفاضة وشكلية إلى حد بعيد، أو دولة مقسمة بشكل صريح. أما الدولة المركزية فقد باتت ممنوعة من الصرف لأن سورية كلها لم يعد ممكناً اصطفافها ضمن تحالف أو احتسابها حصة لطرف واحد.
ربما هذا ما يفسر سبب تعديل مواقف الدول من عملية الانتقال السياسي في سورية وتأجيل هذه المسألة إلى حين الانتهاء من ترتيبات المحاصصة.
المصدر : الحياة