مقالات

عمر قدور – زوّار بشار وما يمثّلون

قد لا نجد تقاطعاً مباشراً في الأسباب والأهداف بين ما أُعلن عن زيارة وزيرين لبنانيين على الأقل دمشق والزيارة التي قام بها وفد يمثّل الاتحاد العام للشغل التونسي.

فزيارة الوزيرين تأتي بصفة أكثر رسمية، مع إعلان أحدهما نيته توقيع اتفاقيات حكومية مع سلطة الأسد. فضلاً عن ذلك، أتت زيارة الوفد التونسي من منطلق مختلف، حيث يمثّل اتحاد الشغل أيديولوجيا راديكالية لجهة معاداة الإسلام من منطلق لاييكي، بخلاف الوزيرين اللذين ينطلقان من تحت العباءة الإيرانية الطائفية.

هذا الاختلاف لا يبرئ أحدهما ولا يصم الآخر، فزيارة الوفد التونسي لا يمكن أن يشفع له بها إسلام تونسي متطرف، لأن تجربة حركة النهضة التونسية منذ الثورة تُعتبر أفضل تجارب الإسلام السياسي في المنطقة، بل إن زعيم الحركة راشد الغنوشي أعلن في مؤتمرها العاشر انتفاء ما يبرر مصطلح الإسلام السياسي في تونس، واقترح بدلاً منه تسمية «مسلمون ديموقراطيون» مع إقرار ترك العمل الدعوي والخيري. وبالنظر إلى المرجعية الفرنسية للاييكية التونسية، يمكن القول إنها تتفوق على العلمانية الأم، فعلمانية فرنسا اليوم متصالحة مع الإرث الثقافي الكاثوليكي، مثلما هي متصالحة في قسم معتبر منها مع الهوية الإسلامية وغير الإسلامية للمهاجرين.

أما إذا نظرنا إلى الإسلام الجهادي التونسي، فالعدد الأكبر من الجهاديين العرب الناشطين في سورية من أصل تونسي، وهم أساساً ليسوا مشكلة سورية، بقدر ما هم مشكلة بلدهم الأم أو بلد الهجرة. وأن يخوض الاتحاد التونسي معركته ضد المتطرفين من أبناء بلده على الأرض السورية فهذا أمر يفتقر إلى النزاهة، ولا يبتعد من دعوة زعيم «حزب الله» خصومه اللبنانيين، عندما كانوا خصوماً، إلى قتاله في سورية.

زيارة وزراء «حزب الله» وحركة أمل دمشق لا تصم مرجعيتهما السياسية بأكثر مما هي موصومة به سلفاً، على الأخص «حزب الله» المشارك في العدوان المباشر على السوريين منذ سنوات. إلا أن هذه الزيارة، بالصفة الرسمية لا الحزبية، عار على الحكومة اللبنانية بأكملها، والتنصل اللفظي من الزيارة أو القول إنها لا تحظى بإجماع الحكومة لا يعنيان شيئاً، ولا يؤثران في واقع ما يلوح به وزير «حزب الله» من اتفاقيات سيعقدها بحكم صلاحياته.

مسؤولية الحكومة اللبنانية مجتمعة لم تعد تتوقف عند الصمت على وجود ميليشيات «حزب الله» في سورية، وإنما تعدّتها فعلياً إلى مسؤوليتها عن التطبيع مع سفاح السوريين. فوِفق ما تذكر وسائل إعلام لبنانية، ثمة تغطية حكومية غير معلنة لزيارة الوزراء، وهذا هو السبب في عدم الاعتراض على الزيارة في شكل قوي، وثمة أيضاً كلام عن طمع في عقود إعادة إعمار سورية التي يريد البعض نصيباً منها. الأهم ربما ما يُشاع عن مباركة خارجية لصمت الحكومة اللبنانية، ما يشي بقبول خارجي لتعويم الأسد، ومن المعلوم أن بعض الجهات لم تكن لتتجرأ على القبول لولا اطمئنانها إلى الرضا الخارجي.

يصحّ إلى حد كبير اعتبار ما حصل في الساحة اللبنانية خلال سنوات الثورة السورية مرآة للتعاطي الدولي والإقليمي مع الملف السوري، فالسماح لـ «حزب الله» باختراق الحدود والمشاركة في إبادة السوريين مؤشر واضح، ومن ثم تمكين الحزب وحلفائه من فرض اسم الرئيس الذي يفضّلونه مؤشر آخر على تسليم لبنان للوصاية الإيرانية. المؤشر الأخير في زيارة الوزراء هو تأكيد كل ما سبق، ومؤداه الصريح لا يتوقف عند الخضوع لمتطلبات «حزب الله» الآنية فحسب وإنما اندراج لبنان ضمن الترتيبات الجديدة للمنطقة وإفقاده هامش تميزه السابق.

زوار الأسد لا يشبهون زوار صدام حسين في ما مضى، وبصرف النظر عن قوائم المرتزقين من الأخير فقد نال التعاطف أيامها على أرضية حربه مع إيران ثم استهدافه من جانب الغرب ومحاولاته إظهار نفسه كزعيم وطني مستقل، وربما بعض التعاطف كأول رئيس عربي باتت نهايته وشيكة. في حالة بشار، حاول إظهار نفسه بديلاً عن الإرهاب القادم، وكانت هذه رسالة للغرب في المقام الأول، وهي الذريعة التي استخدمها بعض القوى الغربية للإبقاء عليه أيضاً. ثم إنه بخلاف صدام استجلب تدخلاً خارجياً مباشراً، من دول وميليشيات، بحيث لا يمكنه التظاهر باستقلالية القرار، بما في ذلك تحفظه الوحيد على وجود قوات التحالف الدولي الذي اقتصر على عدم مجيئها بالتنسيق معه.

طبعاً، في الحالتين، ينعدم لدى الزائرين أدنى إحساس إزاء معاناة الشعب من حكم الطاغية وجرائمه التي بلغت حد الإبادة. ولا تكفي فوبيا «الإرهاب السنّي» لتبرير انعدام الحساسية لدى زائري بشار، سواء أتت من علمانيين أو طائفيين. هذا التبرير مشابه لتسليمنا بأن الأسد ربح لعبته بطرح نفسه بديلاً عن الإرهاب، وتسليمنا بأن الغرب بكل قدراته الاستخباراتية انطلت عليه اللعبة، وصولاً إلى تسليمنا بوجود حاضنة شعبية واسعة للإرهاب، ما يقتضي (على نحو مستتر أو معلن) القبول بضرورة إحكام السيطرة عليها من خارجها.

قد تكون مفيدة الإشارة في التوقيت نفسه إلى بيان وقع عليه العديد من النواب المصريين والوزراء السابقين، فحواه دعم «انتصارات الجيش العربي السوري» والأسد ضد المؤامرة الأميركية على سورية، والمتمثلة في تقسيمها وخلق كيان كردي فيها على غرار إسرائيل، كما يورد البيان. فهنا، حيث تتوارى نغمة مكافحة الإرهاب، تحضر الغيرة المزعومة على وحدة الأراضي السورية وعروبتها، ودائماً من دون أن تحضر الغيرة على مصير السوريين قتلاً وتهجيراً. وكما في أمر الزيارات، ترتفع هذه الأصوات الآن منتشية بوعد النصر على المؤامرة الكونية من دون أن يفسّر أصحابها اتفاق روسيا، حليفة بشار، مع الولايات المتحدة في الملف السوري على رغم اختلافهما في غالبية الملفات الأخرى.

في كل الأحوال، لا ينبغي جلد الذات كرمى لما يعبّر عنه زوار بشار ومَن في حكمهم، لأن ذرائعهم من باب التغطية على مصالح أعمق. ولن تكون لائقة مبادلتهم تهم العمالة والارتزاق، فالأقرب إلى الواقع أن جرائم بشار بكل بشاعتها تمثّل قناعاتهم المتباينة، وربما خلاصتها الأنقى. لقد انقضى أيضاً زمن إيجاد الأعذار بحجة قلة معرفتهم، والأقرب إلى الصواب أننا كنا آخر الجاهلين بالوحش الذي نعيش وإياه في هذه المنطقة.

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى