قرأت، يوماً، على باب مسجد في عمّان شعاراً لاصقاً يقول: الديمقراطية نظام كافر، ويحرم تطبيقها أو الأخذ بها أو الدعوة إليها. أي أن كل من “تورط” في هذا النظام، تطبيقاً ودعوةً وترويجاً ومطالبة به، هو في حكم الكافر، وبالطبع، يشمل هذا “التكفير” أعضاء البرلمان الأردني، والمنتسبين للأحزاب الأردنية، وكل نشطاء مؤسسات المجتمع المدني والمنتسبين إليها، والكتاب والصحفيين الذين يدعون إلى الدمقرطة، وما لا نعلم من أقوام يؤمنون بهذه الدعوة.
وبهذا المعنى أو ذاك، كل من مر ذكرهم كفار مهدورو الدم، أي أن قتلهم حلال ومالهم مستباح، ونساؤهم محرمات عليهم، وإن مات أحدهم يحرم دفنه في مقابر المسلمين، ويقع عليهم ما يقع على المرتد عن دينه المفارق للجماعة.
تلك اللافتة الملتصقة على باب المسجد، قرأها مئات المصلين، وبين هؤلاء أناس يوقنون بما يقرأون بلا تمحيص، فللمسجد حرمته، ولا يمكن أن يوضع على باب المسجد إلا الكلام الصحيح، والحكم الشرعي غير القابل للنقاش، أو هكذا يظنون. وبهذا المعنى، تحرض اللافتة، في كل حين، على قتل “المرتدين!” من دعاة الديمقراطية! أو على الأقل معاداتهم ومقاطعتهم، والنظر إليهم على أنهم خارجون من الملة، يتوجب الابتعاد عنهم، ومقاومتهم بأضعف الإيمان، إن لم نقل بأقواه، لا سمح الله!
علاقة الإسلاميين بالديمقراطية لم تقف عند حد هذا الملصق، فهو موضوع ساخن، دار، ويدور، داخل الحركات الإسلامية وخارجها، خصوصاً بعد الحديث عن “اختطاف الإسلاميين” ثورات الربيع العربي، والهجمة الشرسة التي تعرض لها ما يسمى “الإسلام السياسي” من “الثورة المضادة”، وهو تعبير يطلق على من ناهضوا ثورات الربيع، وأجهضوها، أو كادوا.
عدد الاستراتيجيين في العالم الذين يعتقدون أن الخيار القادم في الشارع العربي والإسلامي هو باتجاه الحركيين الإسلاميين في تزايد مستمر، خصوصاً بعد نجاحات اعتاد أن يسجلها الإسلاميون في أي انتخابات عربية، تجري بقدر معقول من النزاهة والشفافية. من هنا، بدأت تثور مخاوف عميقة من استلام هؤلاء مقاليد السلطة، ومدى إيمانهم بالتعايش مع “الآخر”، داخليا من أبناء جلدتهم أم خارجيا من غير هؤلاء. وثمة من يقولون، على نحو متزايد، إن الإسلاميين يتعاملون مع الديمقراطية، وفق علاقة زواج المتعة، فهو زواج مؤقت، قد لا يمتد، في حده الأدنى، إلا ليلة أو ساعة، وفي حده الأقصى بضعة أشهر، إذ سرعان ما سينقلب الإسلاميون على النظام الذي حملهم إلى الحكم، ويحولون الدولة من الديمقراطية التي قدمتهم لقيادة الناس إلى السلطة الثيوقراطية المستبدة، المبيدة لأي عقائد أو تعدديات لا يؤمنون بها.
من الصعب أن تقنع أصحاب هذا الرأي بخطأ رأيهم، لأن كثيرين منهم يسوقون هذه الفرضيات لتخويف النظم القائمة والسلطات من “تغول” الإسلاميين، على حد تعبيرهم، تمهيدا لإغرائهم بالبطش والتنكيل بهم، وتغييبهم عن ساحة الفعل، أو على الأقل إبقائهم في حالة تلمس رقابهم وسعي لترخيص وتسجيل حركاتهم في “الشهر العقاري”، أو سجلات الأحزاب، والانشغال بما هو دون العمل المؤسسي، لكي لا يصحو أحدهم من الدوامة التي يعيشها.
على ضفاف هذا النقاش الدائر في أوساط المثقفين ورجال السلطة، ثمّة تيار ديمقراطي إسلامي، إن جاز التعبير، بدأ الظهور منذ فترة لا بأس بها، محاولا فك العزلة عن الإسلاميين، ورد دعاوى العلمانيين والليبراليين عنهم، ويحلو لبعض الكتاب تسمية هؤلاء بتيار “الإسلامو-قراطي”، ويجهد هؤلاء في جلاء موقف الإسلاميين الحركيين من الديمقراطية، والتعددية وتداول السلطة، وقد وجد هذا التيار تعبيراً عملياً له في انخراط أحزاب إسلامية في “لعبة” الديمقراطية في غير بلد عربي، تأسيساً على رؤية شرعية، “تبيح” لهم المشاركة في الحياة السياسية بفاعلية.
وقد يفاجأ كثيرون، هنا، أن هذا التأصيل الشرعي متضمن في أدبيات إسلامية منشورة، فقد أصدر مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين، في نهايات القرن الماضي، ثلاث ورقات، يشرح فيها موقف الجماعة، وإيمانه بثلاثة مفاهيم: الإيمان بمبدأ تداول السلطة، وحقوق المرأة، والعلاقة مع الآخر، وأذكر أنني نشرت نص هذه الأوراق في صحيفة السبيل الأسبوعية الأردنية، حين كنت رئيس تحريرها، ومن عجب إنك كلما قلت لأحد أن “الإخوان” يؤمنون بمبدأ تداول السلطة، رفع حاجبيه مستغرباً، أما العجب الأكبر، هنا، فهو إن كثيرين من “الإخوان المسلمين” المنتظمين في صفوف الجماعة لم يسمعوا بهذه الأوراق، فما بالك بغيرهم؟
وللدكتور محمد علي الصوا عبارة يقول فيها إنهم يقولون إن الإسلام منهج حياة، ودين تعبد المؤمنون الله به، أما الديمقراطية فطريقة لحل مشكلة الحكم، بها يتخلص الناس من أن يكونوا مستعبدين لحاكم مستبد مدى حياتهم. ولذلك، المقارنة بين الديمقراطية والإسلام، أو اختراع ثنائيةٍ، اسمها الديمقراطية والإسلام، اختراع خاطئ، وهذه الثنائية غير حقيقية، لأن الإسلام أشمل وأعم وأكمل، وأتم من أن يكون حلاً لمسألة جزئية، بينما الديمقراطية حل لمسألة جزئية، هي مشكلة الحكم، وتداول السلطة، والتعبير عن الرأي، والحرية.. وهنا تقوم شبهة يسوقها بعض الإسلاميين الذين يعتقدون بكفر الديمقراطية، حيث يقولون إن مصدر السلطة في الديمقراطية هو الشعب، بينما في الإسلام الحكم لله فقط، فكيف نوفق بين هذا القول و”شرعية” الديمقراطية؟ يرى الدكتور الصوا، هنا، أن الحكم لله، كما يقول رب العزة: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه)، أما السلطة فهي للشعب.
السلطة غير الحكم. وهذا خلط بين مفهومي السلطة والحكم، مفهوم السلطة للشعب يعني أن الشعب هو الذي يولي، وقد قام هذا المفهوم، في الإسلام منذ وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، حيث ولى الناس أبا بكر، لم يوله نص إلهي، ثم ولى الناس عمر بطريقة أخرى للاختيار، أبوبكر ولي بالبيعة الخاصة في السقيفة، ثم بالبيعة العامة في المسجد، وعمر ولي بعهد أبي بكر إليه، ثم ولي عثمان بالاختيار من الستة الذين رشحهم عمر، ثم ولي علي، رضي الله عنه، بعد الفتنة باختيار جمهور المسلمين، وبالبيعة العامة، فالسلطة للشعب في الإسلام من بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، وكل مَنْ حكم بعد النبي، من الراشدين المهديين حكم باختيار الناس، وهذا معنى السلطة للشعب!
وقد سبق لصحيفة “العربي الجديد” أن نشرت حواراً مع الرجل الثاني في حركة النهضة، الإسلامية التونسية، وأحد مؤسسيها، الشيخ عبد الفتاح مورو، تناول فيه هذه المسألة على نحو معمق، حين قال إن هناك من يعيش اللحظة الراهنة ويواجه تحدياتها، وهناك المحافظون الذين يعيشون في الماضي، ومنهم إسلاميون يحلمون بعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وأيضاً علمانيون يحلمون بتولستوي ولينين وستالين وبما حدث في الستينيات. وكلاهما يتحمل مسؤولية تعطيل الحراك، وعدم دفعه إلى الأمام. والحقيقة أن ذلك الحوار كان أحد أهم الحوارات التي يجريها إسلاميون، خصوصاً بعد مرحلة ثورات الربيع العربي، وبمجرد أن تقرأ العناوين الرئيسة للحوار، تدرك أنك أمام رؤية بالغة الأهمية، لواحد من أبرز القيادات التاريخية للحركة الإسلامية في بلاد المغرب العربي، حيث تصل إلى رؤية جديدة، حيوية، للمشهد، فيها شيء من المراجعة العلمية، والنقد الذاتي الجريء، وكلها أمور شديدة الأهمية للحركة الإسلامية، والوطنية بعامة، وهي بأمس الحاجة إليها. ومما قاله مورو، مثلا: “الإسلام هو الحل شعار فارغ”.. والإسلاميون ليسوا خياراً دائماً/ لم تدرك الحركات الإسلامية أن المطلوب حالياً نظرة جديدة تأخذ بال
اعتبار الواقع الراهن/ لا يوجد في أدبياتنا، كحركة إسلامية، مبحث خاص بالحكم في العصر الحديث من منظور إسلامي/ لم يكن أحد من أصحاب القرار في العالم يرغب في أن يكون الإسلاميون البديل عن الدكتاتوريات التي أطاحت بها الشعوب/ الإسلاميون أخطأوا عندما تصوروا أنهم البديل. لم يعملوا على جعل الحراك الثوري البديل عن الدكتاتورية/ الحراك عندي، الآن، حراك وطني، يجب ألا يعادي الكيان الإسلامي العام/ التحالف الدولي وجد لإعادة ترتيب المنطقة. هو مجرد غطاء لمشهد جديد!
هذه مجرد عناوين رئيسة لحوار مورو، الذي يعتبر، كما كتبت الصحيفة، شخصية تونسية جذابة ومثيرة للجدل، وهو تاريخياً، أول من بدأ في تونس بالقيام بنشاط دعوي، وهو طالب في كلية الحقوق، وعندما رجع راشد الغنوشي من دمشق، التقيا ليراكما خبرتهما مع آخرين، فكانت بذلك الخطوات الأولى نحو تأسيس الحركة الإسلامية التونسية التي تعتبر حركة النهضة، اليوم، أهم تعبيراتها. وهو يُعتبر اليوم أحد أبرز وجوه الصف الأول في الحركة، وإن كانت آراؤه السياسية واجتهاداته الفكرية لا تعبر عن الحركة رسمياً.
والحقيقة أنه لا بد من قراءة الحوار كاملا، لأهميته، لكنني أتوقف، هنا، عند حديث الشيخ مورو عن شعار “الإسلام هو الحل” تحديداً، والذي لم يزل الشعار “الرسمي” المعتمد للحركات الإسلامية، حيث يقول، إن هذا شعار فارغ، درج على ألسنة الشعوب، وعلى ألسنة قادة الحركات الإسلامية، من دون وعي بمضامينه، وهو يشبه شخصاً مريضاً يأتي للعلاج، فيقال له إن الطب هو الحل. نظرياً القول إن الإسلام هو الحل صحيح، لكن على مستوى المضمون الحل هو الذي سنقوم، نحن، باستنباطه وبنائه، على قاعدة “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، ولم يقدم لنا تفاصيل القضايا والبدائل.
تُرى، هل أجبنا عن السؤال الذي طرحناه في البداية؟
أعتقد أنه سؤال يثير من الأسئلة أكثر مما يستدعي إجابة قاطعة، ولعل في هذه الاستخلاصات الأخيرة، ما يجيب، أو يفتح المجال لمزيد من الأسئلة:
أولاً، تجربة الإسلاميين في الاشتغال بالسياسة، ليس بالحكم فقط، يعوزها نضج وتبلور كثيران، بل يمكن القول إنهم اتسموا بالسذاجة والسطحية، أحيانا، ليس لأنهم طيبون أكثر مما يجب فقط، بل لأنهم لم يحسبوا حساب المتربصين بهم، ممن شعروا بتهديد وجودي منهم، وتعاملوا مع المخاطر المحتملة بغيبية مخيفة، باعتبار أنهم مدعومون من السماء، بحسبان أنهم وصلوا إلى مرحلة “التمكين”، لا “الاختبار”، وتحت بند: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ!.
ثانياً، بلعنا جميعا مصطلح “الإسلام السياسي” الذي أنتجته مختبرات التفكير في أميركا، وصدّق الإسلاميون أنهم ينتمون إلى فصيل جديد، له مواصفات مكتملة، وتصرفوا بناء على هذا الأساس، فكانوا كمن وقع في فخ خطير، بحيث تكون اعتقاد أن كل نجاح لهم نجاح للإسلام، وكل فشل كذلك، وهذا في منتهى الخطورة، فهذا الفصيل، أو ذاك من الفصائل العاملة في الحقل السياسي، لم ولن يكون “الممثل الشرعي والوحيد” للسماء، ولا ينطق باسمها، فما هذه الجماعات والأحزاب إلا بشر يعملون في الميدان، رفعوا راية الإسلام، ولم يكونوا “جماعة المسلمين”، بل جماعة من المسلمين، وكل فشل أو نجاح يلحق بهم بسبب أدائهم هم، لا بسبب هذه الراية!
ثالثاً وأخيراً، لم ينضج الإسلاميون بما يكفي للعمل مع الآخرين، فما أن يشعروا بشيء من الانتصار، حتى يستأثروا بالكعكة، وتغلبهم سيكولوجيا التنظيم، على حساب الوطن، وتلك من أخطائهم القاتلة!
يحتاج الإسلاميون، في المحصلة، لأن يعملوا في السياسة، من دون رفع شعار الإسلام، كأحزاب أرضية برامجية، وفي هذا منجاة لهم وللأمة!
العربي الجديد