مقالات

سوسن جميل حسن – من التضليل إلى الهُراء في سورية

يقول هاري فرانكفورت، بروفسور الفلسفة العقلانية في جامعة برينكتون: يحيط بنا الهُراء، لكننا لا نرى بماذا يتعلق. والهُراء في القاموس: كلام كثير فاسد، لا نظام له، ولا رابط بين جُمله وفِقَره، أي هو كلماتٌ أو عباراتٌ من دون معنى لها، وغير خاضعة للمنطق.

ومن يراقب الواقع، ويرصد كلام الناس وسلوكياتهم في تفاصيل حياتهم اليومية، يرى كثيرا من الهُراء، على شكل الدردشة غير المنضبطة وإلقاء الكلام والحكم والاستنتاجات على عواهنها، وهذا يشكل الملمح الأساس لنمط أحاديثهم وتعاطيهم مع الأحداث، فكيف بحدثٍ جلل كما الزلزال السوري، أو الزلازل الأخرى التي ضربت منطقتنا العربية؟

أما في مواقع التواصل الاجتماعي فإمكانية إنتاج الهُراء أكبر، لما تتمتع به هذه المواقع من أريحيةٍ في استخدامها، وما تمنح من فضاء متاح لجميع الأفراد بديمقراطية كاملة، يمنحهم الحرية المطلقة، ليقولوا ما يريدون، أو ما يرغبون بالتعبير عنه، بل إن المستطيل المخصص لكل مستخدم فيسبوك ممهور بجملة استفهامية: بماذا تفكّر؟ كدعوة غاوية للكتابة.

يفرق هاري فرانكفورت بين الهُراء والكذب، فالذي يرغب بالهُراء، أو يمارسه، خلال مسيرة حياته يكون أكثر حرية، لأنه لا يتوجب عليه أن يصوغ الأكاذيب أمام الحقائق، وهو يروي حكاياتٍ لا تحتاج أن تنسب إلى الحقيقة أو إلى الزيف، فهو مبدع، بل وفنان في نسج هُرائه، ولا يهتم بالحقائق إلاّ بالقدر الذي ينجيهم أو ينقذهم. أما الكذب فيحتاج إلى “تركيز حاد”، فهو، بعكس الهُراء، يحتاج إلى احترافٍ، لأن على الكاذب أن يُلمّ بالحقائق أولاً، كي يستطيع أن يخترع كذبة. وبناء على هذه المفاضلة، فإن “الهراء عدو الحقيقة الأعظم، بكثير، من الكذب” كما يقول.

أما الكذب في بث الأخبار أو الشائعات وفبركتها، لتخدم هدفاً محدداً يُراد منه، في الدرجة الأولى، حرف انتباه الشريحة المستهدفة عن قضيةٍ معينةٍ، ودفعها باتجاه نسق محدد من التفكير، فلقد كان ألف باء الميديا، بكل أنواعها وكل ارتباطاتها وانتماءاتها، بالنسبة للشأن السوري، والغاية بأبسط شكل لها هي تشكيل اتجاه عام للمجموع أو الشرائح المستهدفة يعكس دافعاً واستعداداً لدى معظم أفراد الجماعة، أو الشريحة لتبنّي وجهة نظر تجاه موقفٍ لم يتحدد بعد، وللاتجاه تأثير على استجابة الفرد حول جميع المواقف والموضوعات التي تستثير هذه الاستجابة، وهو يدفعها نحو الهدف المطلوب… إذن، الاتجاه هو استعداد نفسي لاستجابة سلوكية معينة تجاه موقف معين لم يتحدد بعد. ما تم ترسيخه في العقود الماضية هو اتجاه عام نحو تبني العقائد الدينية والطائفية التي كانت مستبطنةً حالةً وهميةً خادعة، فرضت بالسيطرة والقوة والقمع تنادي بالقومية والعلمانية والتحرّر والوطنية والجنوح إلى التطوير والتحديث، بينما في الواقع كانت الأصولية الدينية والعصبية الطائفية والمذهبية والقومية هي التي تستعر تحت هذا القناع المخادع المهلهل.

في هذه العقود، والعقد الأخير منها أكثر من غيره لما شهد من عنفٍ وتدمير لبنى المجتمع والدولة، وانتهاك للوعي الفردي والجماعي، وتطاول على البنية الشخصية للفرد السوري، فإن نتيجة الكذب والخداع اللذين مورسا كانت مزيدًا من الهُراء المدروس الموجّه، عن طريق أشخاص وفرق متخصصة في فن الهُراء. ومن الهُراء العفوي الناجم عن فقدان الثقة ومحاولة تعويضها بوهم الإرادة الحرة عن طريق التعاطي اللامسؤول بالشأن العام، أيًّا كان مجاله، وهذا حقٌّ لكل مواطن، حق أن يكون له رأي بالشأن العام، لكن الواقع أظهر فيضًا من الهُراء، وآخره الضجة التي أثارتها المناهج التعليمية والتربوية الجديدة في وزارة التربية السورية.

بمتابعة ما تضج به وسائل التواصل، وبالاطلاع على كتب جديدة “مبتكرة” في مناهج وزارة التربية السورية، تصل إلى أن الهُراء الذي تتحدث عنه هذه المقالة ليس شأنًا شعبيًا فقط، بل شأن حكومي أيضًا.

بعد سنوات سبع من الدمار والدم، وبعد أن صودرت أحلام الشعب بانقلابه على واقعه، واغتيلت أحلامه بدولة مدنية حديثة تقوم على المواطنة أساسا للانتماء للوطن السوري، بعيدًا عن العصبيات بكل أنواعها، وبعيدًا عن أسلمة الدولة، ومن أجل أن يكون الدين شأنًا شعبيًا وخاصًا، أضيف إلى منهاج الصف الأول الابتدائي كتاب، لم يكن مقررًا في أي عام مضى لهذه الفئة العمرية التي يفترض أنها لا تعرف مدلول الحرف بعد. اشتمل الكتاب على أربع وحدات درسية، كل منها من أربعة محاور: القرآن الكريم، الحديث الشريف، السيرة النبوية، الأخلاق.

وبما أن الطفل في الصف الأول الابتدائي يكون في حالة خوض محنةٍ كبيرة، تعتبر بمثابة الفطام الفعلي عن والديه وبيته، ويعاني من خوفٍ واضطرابٍ وارتباكٍ من مواجهة المحيط الخارجي وحيدًا من دون أهله، وأن خبراته التعليمية معدومة، فإن هذا المنهاج، من حيث المبدأ، زيادة عليه وأكبر من وعيه واحتماله، إن كان لجهة المفردات الصعبة التي عليه حفظها، أو لجهة تكريس الخوف لديه منذ نعومة أظفاره بـ “يوم الدين” الذي هو يوم الحساب. ثم “المغضوب عليهم ولا الضالين”، أو “لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت”.

أما آداب الطعام فهي البداية بالبسملة، كما يقول الحديث الشريف المدوّن في الدرس: “سمِّ الله وكل مما يليك”. فماذا عن الأطفال الذين ليسوا مسلمين؟ أليسوا سوريين؟ أما العناوين التي تشتمل على قيم، مثل الصدق والنظافة والكلمة الطيبة والإخلاص وغيرها، فجميعها قيم إنسانية لا تخص دينًا دون آخر، ويمكن تغذيتها في نفوس الأطفال بمعزل عن الدين. فهل تعليم الطفل أن “الطهور شطرُ الإيمان” كما جاء في الحديث الشريف سوف  يرسخ هذا السلوك البشري أكثر مما تقدّمه العلوم والمعارف في القرن الواحد والعشرين؟ وهل “الطهور” شأن إسلامي فقط؟

هذا بالنسبة لكتاب واحد، أما بقية الكتب والمناهج فجديرة بدراسةٍ مطولة، ليس أقلها السؤال عن هوية المجتمع السوري القادم، وهل كانت نتيجة هذه الحرب المدفوعة تسوياتٍ تفرض على الشعب الذي مُنع من تحقيق حلمه، وساموه الذل والهوان والقتل، وسرقت الفصائل الإسلامية ثورته، وقتلت الحرب طموحه، ليأتي كتاب اللغة العربية للثاني الثانوي العلمي بغلافٍ تحتله صور فتيات محجبات، فهل هذه هي الهوية القادمة للمجتمع السوري؟ وماذا عن باقي طوائفه؟

كتاب التاريخ للأول الثانوي، عدا صورة الغلاف التي تثير الرعب، وهي صورة تمثال ملك ماري “إيتور شماكين”، والتي كان يمكن استبدالها بصور ألطف، وإخراجها بطريقة أكثر فنية، فإن الكتاب المزمع أن يكون مبنيًا على منهج البحث الذي يدفع الطالب إلى أن يتقصّى من أجل الحصول على المعلومات وبناء المعارف، فإنه يحتاج إلى دورةٍ مكثفة للمدرسين الذين يدرسون المادة، هذا إذا تغاضينا عن الأخطاء اللغوية والنحوية التي يحفل بها. هناك ارتباكٌ واضح في تقديم المعلومة وإدارة المنهاج.

في المحصلة، الضجيج الكبير الذي تحدثه المناهج التعليمية الجديدة زاخر بالهُراء، كما أن المناهج بحد ذاتها غنية بهذا الهُراء. هذا نتيجة حتمية لسبع سنواتٍ من التضليل والخداع والأكاذيب التي فرّغت الوعي العام، والحرب التي دقت أسافينها في صدور السوريين، بينما التسويات واللمسات الأخيرة تجري بنشاط عالٍ وسعي حثيث، وآخر المدعوين إلى رسم الخرائط الجديدة والخطوط البيانية للحياة القادمة هم السوريون.

المصدر : العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى