أنهى الاجتماع السادس لمسار أستانة تحديد مناطق النفوذ في سورية، باستثناء التحديد الدقيق لوضع مدن شمال سورية وشرقها؛ طبعاً هناك تسريبات تقول إن المناطق التي فيها أغلبية كردية ستخضع لسيطرة أميركية وكذلك شرق الفرات وغربه من حصة الروس وحلفائهم، والمناطق الواقعة تحت سيطرة النظام ذاته ستكون من حصة روسيا وإيران. إدلب مشمولة إذاً ضمن مناطق النفوذ، وهذا معلنٌ قبل الاجتماع السادس. عقدةُ سيطرة جبهة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) لم تحلّ بعد، على الرغم من كل المحاولات التي بذلتها دول إقليمية، لتجنيب المدينة من دمارٍ يُشبه بقية مدن سورية، ويعطي للحركة ذاتها مخرجاً يمنع سحقها بالكامل. أنهى مسار أستانة استقلالية المدينة، وأصبحت تحت سيطرته، وترافق هذا الأمر بانفكاك عدد كبير للتنظيمات المتحالفة مع جبهة فتح الشام ضمن هيئة تحرير الشام، بل إن قياديين مثل مصلح العلياني وأبو صالح طحان وعبد الله المحيسني خرجوا من الجبهة. ودلالة هذا الأمر واضحة، وهي أن المعطيات الإقليمية والدولية تغيرت، ولا بد من ملاقاتها قبل السحق وخسارة كل شيء.
كل المحاولات مع جبهة النصرة، والتي لاقتها بتغيير اسمها إلى جبهة فتح الشام فقط، لم تُفهمُها أن الحرب في سورية تكاد تضع أوزارها، وأن الممكن الوحيد أمامها هو أن تصبح حركة سوريةً ووطنيةً، وتتحالف مع بقية الفصائل السورية والعمل ضمن خيارات التدخل الدولي لإنهاء الحرب، أي ضمن خيار أستانة أو جنيف، أو ضمن مؤسساتٍ مثل الهيئة العليا للمفاوضات وسوى ذلك. إذاً لم يعد ممكناً التغريد خارج السرب، فالروس بالتحديد هم من أنقذ النظام، والأميركان متحالفون معهم، وهناك قرارات دولية تقول إن جبهة النصرة تنظيمٌ إرهابيٌّ، وموفد الولايات المتحدة إلى سورية، مايكل راتني، يكرّر في بياناته أن جبهة النصرة ومهما غيّرت اسمها فهي جبهة النصرة، وسيُسحق كل من يتحالف معها.
ناورت “فتح الشام” منذ سيطرتها على إدلب في سبتمبر/ أيلول 2015، فتارةً أقامت “جيش الفتح”، ثم شكلت هيئة تحرير الشام، وحاولت التعاون مع الفصائل في السيطرة على إدلب، وأقامت إدارةً مدنية تُشبه “مجلس محافظة”، ووزعت المسؤوليات فيها مع بقية الفصائل، وكلما حوصرت تناور، حتى وصلت أخيراً بدفع بعض قياداتها والمقرّبين منها إلى عقد المؤتمر السوري العام، والذي ستنبثق عنه حكومة في إدلب، وليست مرتبطة بالحكومة المؤقتة للمعارضة، وحشدت من أجل ذلك كل طاقاتها لإفشال قرارات مسار أستانة، ولسحب الغطاء من تحت الفصائل المشاركة فيه، ولم تكتفِ بذلك، بل أعلنت معركة حماة “يا عباد الله اثبتوا” في 19 سبتمبر/ أيلول، فارضة المشاركة على بعض الفصائل الضعيفة والموجودة في مناطق “معركتها”، مثل جيش العزة والنصر، وتريد من ذلك كله ابتزاز الفصائل تلك، وإعادة الفصائل التي انفكّت عنها، والتي تزيد عن ستة، وهي كثيرة العدد (حركة نور الدين، وجيش الأحرار، وكتائب ريف حماة، وقوات النخبة..)؛ إعادتها بحجة محاربة النظام “الكافر”، وطبعاً لن تشترك تلك الفصائل، وبالتالي تصبح الحرب واقعة بين جبهة تحرير الشام وتلك الفصائل وكل الفصائل التي سحقتها “النصرة” وآخرها “أحرار الشام”، وبالتوافق مع تركيا وروسيا، وربما دول أخرى.
في هذا الوقت، تقدمت تركيا بآليات عسكرية عديدة، إلى الحدود مع إدلب، وهي تتعاون بالتأكيد مع الفصائل المنفكة و”أحرار الشام” والفصائل التي استولت جبهة النصرة على مناطقها، بحجة أنها تتعاون مع أميركا. عدا ذلك، كان رد فعل روسيا على المعركة قيام طيرانها بتدمير واسع لمرافق حيوية كثيرة من مشافٍ ومدارس وأفران في ريف حماة وإدلب؛ وتقول العوامل السابقة بشيء واحد، أن الفصائل المحلية أصبحت مستعدة للتعاون مع “الشيطان” ضد فتح الشام، وأن الأهالي أيضاً أصبحوا مستعدين لكل الخيارات، للتخلص من “طغاة ومستبدين جدد باسم الدين” كهؤلاء.
إذاً، لن تنجح جبهة النصرة في محاولاتها البراغماتية الغبية، فهي لا تعادي فقط “بلدان الكفر” والنظام، وكذلك المعارضة والأهالي، وأيضاً لا تستجيب للدول الإقليمية، وبالتالي الحرب التي تضع أوزارها لن تترك “فتح الشام: إلا جثة مثل “داعش”. وقد فهمت الفصائل هذا الدرس جيداً، والتي أُجبرت، ولأسبابٍ شتى، على الدخول إلى مساري أستانة وجنيف.
في مسار أستانة، ليست فقط الحركات الجهادية، مثل “داعش” وجبهة النصرة، ستخسر، بل وكل السوريين؛ فإذا كانت هاتان المذكورتان مثلا قد استخدمتا كأوراق للتدخل الدولي، عبر ائتلاف أميركا والتدخل الروسي وكل أشكال التدخل، فإن مجريات الأوضاع قادت إلى انتهاء قوى الثورة وكذلك النظام. أقصد أن سورية، بوضعيتها الراهنة وعبر الجهاديين، أصبحت دولة مُحتلة، وفيها مناطق نفوذ لدول إقليمية، وسيتم تشكيل نظام سياسي قادم يخدم هذه المعطيات. وبالتالي، مسار أستانة ونهاية جبهة النصرة و”داعش” هي بمعنى ما نهاية كاملة لسورية القديمة.
كانت الثورة تريد حياة أفضل؛ ساعد الجهاديون النظام من أجل التخلص منها. منعت قوة الثورة الجهاديين والنظام من السيطرة الكاملة، فكان التدخل الخارجي وتدمير سورية. لم تنته معركة السوريين بعد، فما تتشكل عليه سورية حالياً يقول باحتمال تجدد حركات جهادية جديدة، ولكن باندلاع حرب عصاباتٍ كذلك. وفي كل الأحوال، يقول الدرس السوري إنّه يجب محاكمة النظام والمعارضة على التفريط بأهداف الثورة من أجل سورية أفضل، وضرورة تشكيل حركات سياسية وطنية جديدة، ترفض كل الأسباب التي أوصلت سورية إلى ما هي عليه حالياً.
ستغرق سورية الغارقة بالأزمات أكثر فأكثر فيها، وأكذوبة إعادة الإعمار المتداولة في الأخبار تمّ الحديث عما يشبهها في العراق ولبنان وأفغانستان؛ الدول الأخيرة هذه مثال أمامنا، وبالتالي ما سيُخرج سورية من كوارثها هو الحركات الوطنية، أي في نهاية الحرب والتشكيلات الجهادية سيكون أمام السوريين مهمة إعادة تشكيل سورية الجديدة، وهذا غير ممكن من دون تلك الحركات.
المصدر : العربي الجديد