لا نعثر الآن على سياق مترابط في حديث السوريين عن وضعهم، ثمة هيئات معارضة لم تغيّر منطوقها عن الثورة وتمثيلها أهداف الثورة، في جهة أخرى ثمة من يقول إن الثورة انتهت منذ زمن، يطول أو يقصر وفق الانحيازات السياسية للقائلين. في الميدان، ما كان مستوراً من تبعية الفصائل (راضيةً أو مكرهةً) لخطوط الدعم أصبح مكشوفاً، ولم يبقَ عملياً أي فصيل ضخم خارج آليات الضبط الدولي أو الإقليمي. اتفاقات «خفض التصعيد» تعني في المقام الأول التزام القوى الدولية والإقليمية بمستوى أقل عنفاً من التنافس، أما قضية التغيير في سورية فلا حضور لها ضمن أولويات أيٍّ من تلك القوى.
قبل ذلك، أجاز منطق الحرب وتحالفاتها ذلك الخلط بين كل من يقاتل النظام، وفي غالب الأحيان تمّ تحميل الثورة على تشكيلات عملت وفق أيديولوجيتها الخاصة، أو وفق منطق إمارة الحرب. هذا الخلط أتاح لأصحابه الاطمئنان إلى استمرار الثورة، وتهميش أهمية الصراع الدولي والإقليمي قياساً إلى مشروع إسقاط الأسد، أو الظنّ بإمكان استثمار الصراع الخارجي خدمة لإسقاطه، على رغم بروز مؤشرات مبكرة إلى غلبة المستوى الخارجي على الداخلي، وإلى عدم اكتراث فاعلي المستوى الأول بتطلعات السوريين.
وبينما ينشغل الإعلام بمتابعة إعادة تموضع القوى الخارجية، وقراءة الحدث السوري من منظورها، تغيب عن الصدارة قضايا السوريين، بل تكاد تغيب نهائياً. هكذا تُعطى الأولوية اليوم مثلاً للمقدار الذي قد تذهب فيه الانعطافة التركية، أو ما يشبهها إقليمياً لجهة القبول ببقاء بشار، وتعوم أخبار عن مساومات إعادة الإعمار. أما التحضيرات لجولة جديدة من مؤتمر جنيف فهي استئناف لرحلة قبول مبدأ عدم التغيير السياسي، وبما أن التغيير ممنوع فالمباحثات ستقتصر كالعادة على ملفات لا تقول شيئاً يُذكر عن حاضر السوريين وتمكينهم من المضيّ في المستقبل.
هذه ليست ثورة خسرت، وينبغي اليوم على أبنائها الإقرار بالخسارة وفق تسوية مجحفة. على الأقل، هذا كلام صار وراءنا، كلام لا يقول شيئاً عن هوية المنتصرين عليها، ولا عن طبيعة الهزيمة. وما ينقصه أنه لا يقول شيئاً عن الواقع السوري، وكأن الأخير مجرد استكمال للحديث من فوق عن صراع سياسي ونتائجه.
بموجب الأولويات الإعلامية سيكون ذكر الوقائع التالية مبعثاً للملل، مع أنها هي الواقع السوري سواء أثار الاهتمام أو لم يثره. لدينا ثلث السوريين من المهجرين واللاجئين، ولدينا مئات الآلاف من القتلى (تتراوح تقديرات عددهم بين نصف المليون والمليون)، ولدينا ما يزيد عن مئتي ألف معتقل، لا يُعرف مصيرهم باستثناء أولئك الذين كشفت عنهم صور سيزار أو التقارير الدولية عن محارق الجثث، لدينا أيضاً تقارير أممية عن الإعاقات التي تسبب بها الحرب وعددها يفوق المليون ونصف مليون. بإيجاز، نصف السوريين موزع اليوم بين قتيل ومهجّر ومعتقل وصاحب إعاقة. هذه ليست حصيلة ثورة خاسرة، ولتأكيد أنها ليست كذلك يكفي النظر إلى رؤية هذا العدد الضخم من قوى الاحتلال الخارجي والداخلي، والتي لم يعد الاحتلال الأسدي أبرزها سيطرة على الأرض بقدر ما هو الاسم الرمزي لوجودها أو بقائها.
هذه الحال، مع التذكير بالمسؤولية الأولى عنها ومن ثم بالمسؤولين اللاحقين والفرعيين، هي ما تمكن تسميته اليوم القضية السورية. التمسك بوصف «الثورة» لم يعد أيضاً سوى دلالة رمزية على المطالبة بإسقاط الأسد، وإذا صحّ ذلك كمدخل ضروري للتغيير إلا أنه لم يعد يقول الكثير عن حال السوريين، أو حتى عمّا تتعين به الثورة الآن بعد الانكشاف العسكري، أو السياسي الذي لم يكن أفضل أداءً. ثم، لا بد من الاعتراف بتهجير الثورة كدينامية داخلية، وسيكون من الانتهازية أو التجني على داخلٍ منهك تحميلُه عبء الاستمرار بها إلى ما لا نهاية.
لم تكن معركة إسقاط بشار، على اختلاف من خاضوها، خاسرة بقوة مواليه. لقد بقي بموجب ما هو معروف من دعم دولي وإقليمي، وبعون من عدم متانة الجبهة الإقليمية المضادة وصولاً إلى انقلاب المواقف فيها. ذلك يشير إلى المكان الذي خسر فيه السوريون، أي إلى الخارج الذي خالف بعضه التوقعات بعدم تقديمه العون الكافي، بينما فاق بعضه الآخر التوقعات في مدى دعمه وحشية تنظيم الأسد. قد تكون الحالة السورية نموذجية في ارتهانها التام للخارج، وإذا غادرنا التوصيف كتهمة يتمّ تقاذفها فذلك يرتّب نوعاً آخر من التفكير والجهد من أجل مواجهة تنظيم الأسد في الساحة التي كسب فيها.
يمكن أن ينطلق بناء القضية السورية في الخارج متحررةً اليومَ من تحالفات إقليمية باتت ثقلاً عليها، وبغياب ادعاءات التحرير السابقة لم يعد من مبرر لبقاء المعارضة في أية دولة مجاورة مع ما يفرضه بقاؤها من ثقل الدولة المضيفة عليها. لم تعد هناك حاجة لمحاباة قوى إقليمية بسبب الدعم العسكري، وتنصيبها وسيطاً بين المعارضة والقوى الدولية. وربما لا يحرج أحداً القول أن معارضة ديموقراطية تحتاج مركزاً ذا تقاليد ديموقراطية يسمح لها بالعمل المستقل، وهذا غير متوافر في المنطقة.
مع التنويه بعدم انتظار نجاحات واختراقات سريعة، قد يكون المنفذ الوحيد المتبقي لطرح القضية السورية هو الضغط من أجل منع التطبيع الدولي مع إجرام الأسد، وتطوير آليات المطالبة بمحاسبته. جرائم موصوفة مثل الإبادة الجماعية والتهجير القسري والقتل تحت التعذيب هي في صلب حكم الأسد، والدفع بها دولياً هو في صلب مشروع إسقاطه، فيما إذا تولت هذه المهمة قوى ديموقراطية على مسافة من كل الانتهاكات التي حدثت في السنوات الأخيرة.
يستحق نصف السوريين من المتضررين قضية تُطرح في شكل متواصل، وتعكّر صفو الذين يريدون تكريس المنطقة كلها كأرض للإفلات من العقاب. ولن يكون مضموناً مصيرها كقضية رابحة، إذ يمثل في الأذهان العديد من القضايا المزمنة الخاسرة. لكن، في المقابل، لن يكون مفيداً الوقوع في عدمية ترى العالم متآمراً إلى ما لانهاية، ولن يكون أكثر فائدة بالطبع انتظار الحل من العالم نفسه في جنيف أو آستانة، الحل الذي طالما تلقت المعارضة الابتزاز أو الأوامر بدلاً منه.
المصدر : الحياة