صادف يوم أمس مرور مائة عام على ثورة أكتوبر التي ربما لم يبقَ منها سوى الذكرى. هكذا يظن بعضهم، وهكذا تهجس الرأسمالية، ومنها فلاديمير بوتين الذي رفض إحياء الذكرى، لأنه اعتبر أنها “أحداث مؤلمة”. لا شك في أنها “أحداث مؤلمة”، لكن للرأسمالية، وهي تاريخ مستمر، وتذكُّره الآن يعني أن تتلمس الرأسمالية رأسها.
لم تكن ثورة أكتوبر حدثاً عابراً، على الرغم من المآل الذي أطاح الاشتراكية، بالضبط لأنها حدّدت البديل الضروري عن الرأسمالية، وأنه يمكن لهذا البديل أن ينتصر. ولهذا باتت حدثاً مرعباً للرأسمالية، ربما مثل الشيوعية التي كانت شبحاً يحوم في أوروبا أواسط القرن التاسع عشر. لقد باتت شبحاً مرعباً، لأنها أظهرت قدرة البروليتاريا على التفكير في استلام السلطة، وقدرة الشيوعية أن تنقل بلداً قروسطياً إلى الحداثة وعصر الصناعة (ذلك كله بغض النظر عن المآل الذي يحتاج نقاشا مختلفا). وبالتالي، كانت تعلن أن نقيض الرأسمالية بات قائماً، وأنه يتحفز لاستلام السلطة وتغيير كلية التكوين المجتمعي والعلاقات الاجتماعية لمصلحة البشر.
ويمكن القول إنها فعلت ما فعلته الثورة الفرنسية، حينما دمّرت الإقطاع، وهي لا تملك بديلاً. لهذا عانت فرنسا من دكتاتورية نابليون بونابرت، ثم من عودة الملكية، قبل أن تُقلع في الانتقال إلى العصر الصناعي في الربع الثالث من القرن التاسع عشر. ولا شك في أن ثورة أكتوبر فتحت الطريق لانتقال روسيا إلى عصر الصناعة والحداثة، ولقد أنجزته، وهذا هو فارقها الكبير عن الثورة الفرنسية. لهذا كانت، مثل الثورة الفرنسية، أكبر ثورتين شهدهما العالم. وإذا كانت الثورة الفرنسية قد أشَّرت إلى البديل الرأسمالي، وفتحت الأفق لانتصاره، فقد أشَّرت ثورة أكتوبر إلى البديل الشيوعي، وقدمت خبرة هائلة الأهمية في بناء مجتمع بديل، ونمط لا يقوم على الملكية الخاصة. وكما أشرت، على الرغم من المآل الذي آلت إليه.
ربما احتفى الإعلام الرأسمالي الغربي بالثورة جزءا من بروباغندا تهدف إلى القول إن الثورة فشلت، لكن الرأسمالية الروسية لم تجرؤ على فعل ذلك حتى، فهي تعيش حالة رعب من الثورات، لهذا “كسرت الثورات الملونة” في البلدان العربية، كما ادعى وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، بالضبط لأنها تتلمس أن وضع روسيا قابل لثورة جديدة، وفي الأفق ذاته. لقد ظهر أن الرأسمالية الروسية هي الأكثر خوفاً من ثورة أكتوبر، والأكثر رفضاً لها. فهي “ثورة ملونة”، أضرَّت بأمجاد روسيا العظمى، وبتحوّل روسيا مبكراً إلى دولة رأسمالية. هذا الوهم الذي يتعمم، ومن “يساريين”.
في كل الأحوال، كانت ثورة أكتوبر مفصلاً حاسماً في تطور البشرية، وليس روسيا وشعوب الاتحاد السوفيتي فحسب. بالضبط لأنها قدَّمت للأمم التي فُرض عليها التخلف والتبعية أن طريقاً وحيداً هو الممكن، وهو الطريق الذي عبّرت عنه ثورة أكتوبر، والذي كان للينين الدور الأهم في صياغة الرؤية التي تقود إليه، وكذلك في تنفيذه عملياً على الرغم من تردّد رفاقه. حيث يجب أن يتقدم الشيوعيون لاستلام السلطة، وعليهم يقع عبء بناء اقتصاد صناعي منتج، ومجتمع حداثي، ودولة علمانية ديمقراطية، بالضبط لأن الرأسمالية التي تدّعي الدفاع عن الديمقراطية والحداثة هي التي تمنع كل ميلٍ يسعى إلى ذلك، لأنها تؤسس لبنى مجتمعية في الأطراف تخدم مصالح شركاتها، وتتيح لها النهب.
هذا هو درس ثورة أكتوبر الأول، وقد أنتجت التجربة التي قامت على أساسها دروساً مهمة، يمكن أن تسهم في تجاوز كل المشكلات التي عانتها الاشتراكية، ونحن نسير لتحقيق تجربة أخرى، مع ثورة أكتوبر جديدة. ونحن، بلا شك، في لحظةٍ مشابهة، حيث بدأت الثورات في البلدان العربية مع بداية هذا القرن، وستستمرّ الى أن تفرض التغيير العميق، في مسار الانتقال إلى الاشتراكية.
في الذكرى المئوية للثورة، سنجدّدها بالتأكيد.
المصدر : العربي الجديد