في البداية، يتناهى للمستمع أن ما يقصده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من وراء مصطلح «مؤتمر شعوب سورية» أو «مؤتمر الحوار الوطني» لا يجب تحميله مضامين عدة يصل بعضها إلى حد التفسير المؤامراتي، ذلك أن بوتين هو ابن ثقافة سياسية أنتجت هذا المصطلح منذ عقود طويلة حين كان يجري وصف الاجتماع السوفياتي، وحتى بعد ظهور روسيا، استمر تفضيل هذا المصطلح لوصف الديموغرافيا الروسية ومكوناتها.
لكن أيضاً، يمتلك بوتين القدرة على التفريق بين المصطلحات ويعرف أن كل كلمة في السياسة لها معانيها الخاصة ويعرف حدود تأويلاتها وأحجام حمولتها، بدليل أنه يخوض صراعاً سياسياً وعسكرياً للمحافظة على نظامه السياسي من التأثيرات الغربية كما يدافع عن نمط الثقافة الروسي في مواجهة ثقافة الغرب ويدافع عن القيم الأرثوذكسية والسلافية، ونتيجة ذلك يدرك الفارق بين المصطلحات وبخاصة الديموقراطية والشفافية وتداول السلطة وحرية الإعلام.
لكن أيضاً، لماذا الاستنكار ما دام السوريون، واقعياً، ليسوا سوى شعوب مختلفة وقد أثبتت الأزمة هذه الحقيقة، فلماذا هذه المخاوف والهواجس المرافقة من مجرد مصطلح؟ هل المصطلحات والتوصيفات الخارجية هي ما يقرر مصير دولة وشعب؟
في تاريخ سورية قسمت فرنسا البلد إلى خمس دول، يعني أنها لم تكتف بالكلام بل صنعت واقعاً على الأرض سرعان ما اضطرت إلى التراجع عنه، سواء كان ذلك نتيجة حسابات سياسية أو بسبب عدم واقعية الفكرة في التطبيق أو حتى رضوخاً لمقاومة سورية، والمفارقة أن هذه المرحلة تشبه مرحلة قيام فرنسا بتقسيم سورية بعد ثورة مجهضة.
لكن ماذا لو استخدم بوتين بدل مصطلح «الشعوب» تسميات أخرى على شاكلة المكونات الدارجة في العراق، أو الكيانات والقوميات كما يرد في دساتير دول كثيرة، أو الإثنيات كما يصف الغرب شعوب المنطقة، أو حتى الأطياف، المصطلح الذي تستخدمه إسرائيل لوصف العرب داخل الخط الأخضر، فهل سيحظى بتفهم أكثر، وهل لا تنطوي تلك التسميات على حمولات تقسيمية، فيما مصطلح الشعوب يبدو وكأنه إعلان تأسيسي لولادة دول كثيرة في الحيز السوري؟
لا يوجد في سورية، سوى قوميتين بحجم دول، العرب وهم الغالبية الساحقة، والأكراد الذين يشكلون أقل من عشرة في المئة من السكان، ويشتركون مع العرب في أماكن إقامتهم بعكس الحال في العراق وإيران، أما بقية القوميات «الشعوب» كالأرمن والسريان والتركمان والشركس، فهي صغيرة الحجم لدرجة أنها لا تشكّل غالبيات عددية على المستوى الإقليمي، أما الطوائف، فهي جميعها لا تمتلك أراضي متواصلة يمكن من خلالها إقامة كيانات فعلية لها.
المسألة ليست مرتبطة بتسميات بقدر ما هي شديدة الصلة بالسياسات الممارسة على الأرض والتقديرات المستقبلية للتطورات السورية والفرص والأخطار التي تنطوي عليها، واللافت أن بوتين اختار مؤتمر فالداي لطرح جديده بخصوص سورية، والمعلوم أن هذا المؤتمر تحوّل إلى منبر للإعلان عن السياسات الروسية المستقبلية ومناسبة لإخبار دوائر صنع القرار الغربية بتوجهات السياسة الروسية واختبار ردود أفعالها.
وليس خافياً أن روسيا اتبعت، منذ تدخلها العسكري المباشر في سورية، سياسة واضحة تقوم على تدمير المعارضة السورية بكل أشكالها، العسكرية والسياسية، واعتمدت منهجية مرحلية لتحقيق هذا الهدف، وبالفعل استطاعت قلب موازين القوى لمصلحة نظام الأسد في مرحلة أولى، كما استطاعت تأسيس قواعد جديدة للحل السياسي نسفت من خلالها مبادئ جنيف-1 والقرارات الدولية التي تتحدث عن مرحلة انتقالية لا يكون للأسد دور فيها.
في هذا السياق، يأتي طرح «مؤتمر شعوب سورية»، وهو يشبه «اللويا جيرغا» الأفغانية، كمؤتمر مصالحة أكثر منه مؤتمر سياسي، كما أن مكوناته عبارة عن وجهاء عشائر ورجال دين، ولا شك أن أسماء الأعضاء حاضرة لدى الروس الذين شكلوا قاعدة بيانات ضخمة عن المجتمع السوري من خلال نشاط قاعدة حميميم ومئات المصالحات التي عقدوها مع مخاتير القرى وقبضايات الأحياء ووجهاء أفخاذ وبطون العشائر.
على ذلك فإن الدعوة الروسية لهذا المؤتمر، سواء كان لـ «شعوب سورية» أو للحوار الوطني، تبدو محاولة لاستنزاف المعارضة ودفعها إلى تقديم تنازلات أكبر لنظام الأسد، ذلك أن هذا المؤتمر يهدد وجودها بدرجة كبيرة، ففي حين أن مقعد نظام الأسد مضمون في أي شكل من أشكال التسويات في سورية، فإن المعارضة مهددة بخسارة موقعها، خصوصاً أن روسيا صنعت في السنتين الأخيرتين الكثير من المنابر والمنصات كبدائل على الأرض عن المعارضة السياسية، كما أنها احتوت بعض المعارضة العسكرية من طريق المصالحات المحلية في مختلف المناطق السورية.
المصدر : الحياة