مقالات

مالك ونوس – بوتين ورسائل نُصب القمع السياسي

ربما ليست مصادفةً تزامنُ تدشين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نُصباً يخلِّد ضحايا القمع السياسي إبان فترة الحكم السوفييتي، مع مرور الذكرى المئوية لثورة أكتوبر الاشتراكية في بلاده. وإن كانت مصادفة، بالفعل، فهي ربما مؤشِّر من الرجل على أنه يريد التأكيد على خلعه العباءة الحمراء التي تدثر بها سنوات صباه وشبابه. كما إنها تحمل رسائل إلى أعدائه، وذوي النظرة الحائرة بشأن خلفيته الفكرية، علاوة على رهطٍ يحاول أن يتلحف باندفاعته العسكرية التي تبدَّت، أخيراً، على أرض سورية، بعد أن انتشى بها، وأخذ يسبغ عليه صفة الشيوعي الذي سيعيد مجد السوفييت، أو على الأقل مجدَ روسيا، عبر دروس الرجولة التي يلقِّنها للإمبرياليين في سماء سورية، ومن دماء أبنائها.

هنالك أناس كانوا ينتظرون الكلمة الفصل التي سيخرج بها بوتين في الذكرى المئوية لانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية التي برز في قيادتها فلاديمير إيليتش لينين، زعيم الحزب الشيوعي الروسي، سنة 1917، وانتصرت على حكم سلالة القياصرة الروس، من عائلة رومانوف، وأقامت بديلاً لحكمهم، سُمِّيَ “ديكتاتورية البروليتارية”، أي حكم الطبقة الكادحة. ولا شك أن المنتظرين كانوا يحملون بعض التفاؤل بأن يرسل بوتين التحيات إلى قادة تلك الثورة، وربما تمادوا في تفاؤلهم إلى حد أنهم توقعوا منه أن يعيد إلى أولئك القادة بعض اعتبارٍ يزيل الحيف الذي لحق بصورتهم، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية سنة 1991، مدفوعين بتفاؤلهم ذلك، مما يعتبرونه تمريغ أنوف الأميركيين وأعوانهم في تراب سورية.

خيّب بوتين آمال من كانوا يعتبرونه الرجل الذي سيعيد الاتحاد السوفييتي إلى سابق عهده، ليتمكن من مقارعة الامبريالية الأميركية، وربما الانتصار عليها. وخابت آمال هؤلاء عندما دشَّن، في 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ذلك النُّصب الذي يخلد ذكرى الضحايا الذين وقعوا إبان فترة حكم السوفييت، حين كان جوزيف ستالين يقود الحزب الشيوعي السوفييتي والبلاد السوفييتية معاً. وزاد من صدمتهم، وفاجأ غيرهم، أنه دشَّن هذا النُصب بعد حوالى شهر من إزاحة الجمعية الروسية للتاريخ العسكري (ترعاها الحكومة) الستار عن تمثالٍ نصفيٍّ لستالين، المتهم بممارسة القمع السياسي، وهو ما يوقع الجميع في حيرةٍ من دوافعه لفعل هذه وتلك.

وكان غريباً تماهي شيوعيين ويساريين كثيرين، وكذلك قوميين، في منطقتنا العربية وبعض دول العالم، مع اندفاعة بوتين العسكرية التي ظهرت صورها في سورية، إثر تدخل القوات الروسية في هذه البلاد، قبل سنتين، وتسجيلهم الإعجاب بخطوته تلك وممارسات قواته بعدها، وتحميل هذه الاندفاعة آمالهم في كسرها أحادية القطب الأميركي، على الرغم من أنها تأتي استنساخاً للتجربة الأميركية في محاولة السيطرة على الشعوب، وفرض إملاءاتها على الحكومات. كما كان غريباً استبدادُ القصور بهؤلاء عند قراءة حقيقة السياسات الروسية الجديدة، واستبدال المواقف النقدية بمشاعر الفرح والسعادة بهذه النزعة العسكريتارية الجديدة، وما يرافقها من خطط توسعية، تبدَّت في بناء القواعد العسكرية الروسية في سورية، والتخطيط لإقامة مثيلاتها في بلدان عربية أخرى.

من جهة أخرى، وعلى صعيد الرسائل الموجهة إلى الداخل، والتي يراد تمريرها عبر تدشين هذا النُّصب، وتفيد باحترام حقوق الإنسان في روسيا، هذه الأيام، فإنها تبدو متناقضة مع سياسة الحكومات الروسية، في ظل بوتين، وسجلها الواضح في انتهاك هذه الحقوق. لذلك، تأتي هذه المناسبة لتكون من ضروب الديماغوجيا التي تمارسها إدارة بوتين، في وقتٍ لا يمكن خداع الشعب الذي عانى كثيرٌ من نخبه المعارضة القمع والسجن وحتى القتل والاغتيال، إذ إن القمع واحدٌ، لا يمكن إدانته إن وقع قبل سبعين سنة، أو تجاهله إذا وقع هذه الأيام. وهو ما عبَّر عنه أربعون معتقلاً سياسياً سوفييتياً سابقاً في رسالةٍ علَّقوا فيها على هذا الأمر، فهو يأتي، حسب قولهم، في وقتٍ يزداد فيه القمع الممارس على المجتمع المدني والمعارضين على السواء. كما أنهم تحدثوا عن رفضهم حضور مراسيم تدشين النُّصب، قائلين: “السلطات تبدي أسفها على ضحايا النظام السوفييتي، لكنها تواصل ممارسة القمع السياسي”.

وإن كان ثمة رسائل موجهة إلى الخارج الروسي، فهي موجهة إلى الغرب الأوروبي والأميركي، يُحمِّلها بوتين نوعاً من البراءة تجاه ماضيه، يريد فيها أن يقول إنه قطع مع ذلك الماضي، وبالضرورة مع الملامح الاشتراكية فيه والتي قد يرى بعضهم أن الرجل وشركاءه في الحكم مازالوا يحملون الحنين إلى فترة حكم السوفييت. وتأتي مشاركة البطريرك كيريل، بطريرك موسكو، وتحاذيه بوتين طوال الوقت، وخصوصاً في مناسبةٍ كهذه، لتعزيز الرسالة المرادة عن قطع بوتين مع الماضي الإلحادي الذي كان يشكله الاتحاد السوفييتي. ولابد من أن تتزين تلك الرسالة بتأكيدات أن ذلك القَطْع مع النظام الاقتصادي الذي كان متَّبعاً يومها، ومساهمة بوتين في تحويل اقتصاد بلاده إلى اقتصاد السوق، قد أنجز من أجل المساعدة في تقبل اندماج روسيا في اقتصاد السوق العالمي.

من الضروري أن يدفع تعمُّد بوتين تدشين النُّصب بالتزامن مع حلول الذكرى المئوية لثورة أكتوبر الاشتراكية، كل من كان يعول على تبدِّي سياسات بوتين المعادية للغرب، أفعالاً تنتصر لحقوق المغلوبين، إلى تعقيل آماله. فانتهاك حقوق الإنسان في روسيا في عهده، واستهداف الطائرات الروسية المدنيين في سورية، لا تعطي بوتين الحق في أن يصبح مدافعاً عن حقوق الإنسان بريئاً، علاوة على عدم براءته من تعمد ذلك التزامن، من أجل ضرب ما ترسّخ في وجدانهم من قيم حملتها تلك الثورة.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى