مقالات

علي العبد الله – إلا الحرية

على رغم الارتياح الذي أشاعه موقف الشعوب العربية والإسلامية الرافض قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، والذي عكس استمرار التأييد الشعبي للحق الفلسطيني، فانه قد بعث في الوقت ذاته هواجس ومخاوف كبيرة من عودة هذه الشعوب إلى الوقوع في حبائل أنظمة القهر والاستبداد التي ستسعى، عبر عملية تلبيس وتدليس خبيثة والعزف على مكانة القدس وفلسطين، إلى إعادتها إلى حالة الخضوع والتماهي مع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» السيئ الذكر من جديد، وإعادتها إلى مربع الذل والهوان، بعد أن شمت نسيم الحرية وذاقت طعم الكرامة بكسرها جدار الخوف ورفضها استمرار سياسة القهر والتسلط، بذريعة مواجهة الخطر الخارجي قبل التفرغ لمواجهة المشكلات الداخلية، التي لا تشكل أولوية مصيرية ووجودية كما هو حال الخطر الخارجي، من طريق القبول بسلطتها وأنظمتها.

لا شك في أن للقدس وفلسطين مكانة خاصــــة فـــــي وجدان هذه الشعوب، وقد سبــــق وعبّرت عن ذلك في مناسبات كثيرة خــلال مراحل الصراع مع المشروع الصهيوني وقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين حيث تدفق المتطوعون من معظــــم البلاد العربية والإسلامية للمشاركة في معركة الدفــاع عن الحق الفلسطيني وتحـــرير الأرض من المحتلين والمغتصبين، كثيرون منهم جاؤوا سيراً على الأقدام آلاف الكيلـومترات، وقد استمر هذا التأييد بأشكال عدة طوال عقود الصراع الماضية آخذاً صوراً كثيرة من التطوع في صفوف فصائل الثورة الفلسطينية إلى جمع التبرعات إلى التظاهر كلما حصل جديد في ملف القضية.

غيـــر أنه لا يمكـــــن أن يتسق تأييد الشعب الفلسطيني والتعاطف مع معاناته ودعمه في نضاله من أجل حقوقه، وهو نضال من أجل الحرية والكرامة بالأساس، مع هدر حرية وكرامة شعب عربي أو مسلم بإخضاعه لأنظمة القهر والاستبداد ومطالبته بغض الطرف عن تسلطها وهيمنتها ودوسها على حريات مواطنيها واستهتارها بكرامتهم وافتئاتها على حقوقهم بحجة تمكينها من مواجهة الخطر الخارجي، فالحرية قيمة مطلقة وكلية، قيمة لا تقبل القسمة أو الاستثناء أو الاستنساب. فالذي يطالب بحق الشعب الفلسطيني بالحرية والكرامة يجب أن يكون حراً وكريماً في وطنه، وهذا يبدأ من التسليم بأنهما حق له هو بالضرورة وإلا فلا معنى لإيمانه بحق الشعب الفلسطيني بالحرية والكرامة وتحركه للدفاع عن هذا الحق وهو يتخلى عن حقه فيهما ويهدره بتنازله عنهما ثمناً لتأييد الشعب الفلسطيني. ثم إن نصرة الشعب الفلسطيني لن تكون متاحة أو ممكنة ما لم يكن الساعي لها والقائم بها حراً بذاته، محفوظ الكرامة ومصون الحقوق في وطنه.

ذكرت كتب التاريخ السياسي واقعة سؤال إمبراطور ألمانيا لمستشاره هل يغزو فرنسا أم يغزو السلطنة العثمانية؟ فأجابه المستشار إجابة غدت درسا في علم السياسة، قال: إنك إن غزوت فرنسا فسوف تهزمها بسهولة لان جيشها ضعيف، لكنك لن تستطيع الاستقرار فيها طويلاً لأن شعبها الذي خبر طعم الحرية لن يرضى باحتلالك بلده، وانك إن غزوت السلطنة العثمانية فإنك ستواجه جيشاً قوياً ستحتاج إلى الكثير حتى تهزمه، لكنك إن هزمته فانك ستنعم بسيطرة هادئة ومريحة لأن الشعب فيها استمرأ القهر والتسلط لذا لن يشعر بالفرق بين تسلطين ولن يعبأ بمن تسلط عليه. الإجابة ذاتها قالها الإمام محمد عبده عندما سئل عن سر هزيمة جيش عرابي المخزية أمام الجيش الإنكليزي في معركة التل الكبير على رغم أنه لم يكن قليل العدد أو العدة، حيث قال: «لقد عاش المصريون تحت نير القهر والاستبداد خمساً وسبعين سنة استمرأوا فيها الذل والمهانة ففقدوا الإحساس بعزة النفس والكبرياء الوطني فهانت عليهم أنفسهم وبلادهم لذا لم يجدوا في الهزيمة مضاضة».

لا ريب في أن لفلسطين، كل فلسطين، أهمية عربية وإسلامية، لاعتبارات دينية وتاريخية، ناهيك عن اعتبارات وطنية وقومية في ضوء طبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه الاستعمارية وخططه العدوانية، لذا يمكن أن يكون للتضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته ثمن باهظ تقبل الشعوب العربية والإسلامية دفعه برضا، إلا الحرية.

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى