طرحت المعارضة والنظام الثورة السورية كورقة للتفاوض الإقليمي والدولي، ليعاد ترتيب الإقليم والعالم بأكمله على جثة هذه الثورة المغدورة، وفعلت المعارضة والنظام ذلك. كان الخوف حقيقياً بالنسبة للطرفين ومنذ اللحظات الأولى للثورة.
كانت الثورة سورية بامتياز، وتقاربت كل أشكال النشاط الثوري في كافة المحافظات والبلدات. وكان جميع السوريين، باستثناء النظام والمعارضة، يرددون «الشعب السوري واحد».
المعارضة قالت: الشعب السوري ليس واحدا، ولا هو قادر على الانتصار، وكان برنامجها: إما الحوار مع النظام (خيار هيئة التنسيق) ودفع الروس والإيرانيين ليجبروه على ذلك، أو طلب كل أشكال التدخل الخارجي (خيار المجلس الوطني ولاحقا الائتلاف). وقد وصلت بها الخفّة إلى اعتبار جبهة النصرة فصيلا من فصائل الثورة. ولم يتأخر هذا الفصيل عن التهام الثورة، وبذلك فتح المجال لكل أشكال الجهاديات ومنها داعش لتكون لها دور في تحرير الشعب “السنّي”؛ فبعض مكونات المعارضة الليبرالية والإسلامية تصف الثورة بـ”السنّية” والنظام “بالنصيري” والأقليات تدور في فلكه، ضاربة بأبسط أبجديات علم السياسة القائلة أن الأيديولوجيا والسياسة كلها تعبير عن المصالح الاقتصادية والسياسية وذلك لتأبيد ديمومة الطبقة المسيطرة؛ وهذا ليس بتفسير اقتصادوي كما يلهج تفكير ليبرالي سطحي، بل تفسير لواقع الحال. المفارقة أن أوساط النظام تقول الشيء عينه.
النظام بعد انطلاق الثورة لم يعد قادرا على مواجهتها، فأدخل إيران وروسيا مباشرة في هذه المواجهة، فقدمتا له كل أشكال الدعم، والمعارضة فتحت بدورها المجال لكل أشكال التدخل الإقليمي والعالمي، وبعد مرور ثلاثة أعوام تم القضاء على القوى المدنية واليسارية والقومية والديمقراطية المشاركة بالثورة وأغلبها غادر البلاد، وتعسكرت الثورة وبرزت الجهاديات كفصيل أساسي في كافة المدن.
التشكيلات السياسية التي بزّت النظام في إدخال الخارج إلى الداخل تشظت بمعظمها؛ فالمجلس الوطني أصبح خارج المعارضة والائتلاف الوطني تراجعت شعبيته كثيراً، وهيئة التنسيق بالكاد يسمع عنها. الأخيرة، وبدلاً من تقديم رؤية وطنية رهنت نفسها بالمعنى السياسي إلى الروس، وأما معارضة “الخارج” فرهنت نفسها إلى الأميركان. الروس والأميركان أرادا تحويل تلك المعارضات إلى أدوات سياسية تابعة، تحت الطلب.
الروس والأميركان لديهما مصالح عالمية، وبتحكمهما بالمعارضة والنظام حولا الثورة إلى ورقة تفاوض؛ ولن يوجد حل لها ما لم يتفقا. وقد تعقد المشهد أكثر حيث للروس مصالح كبرى وتعززت بعقود اقتصادية مجزية أثناء الثورة مع النظام، وأما المعارضة فدُعمت من الدول المتضررة من النظام كتركيا وقطر وفرنسا ولاحقاً دول عظمى ودول إقليمية.
أميركا سيدة أصدقاء سوريا، أرادت أن تلعب روسيا الدور المركزي في حل المسألة السورية. ولكن روسيا لم تشأ ذلك؛ فهي غير معنية بالثورة ومصالحها مؤمنة والوعود كبيرة حالما يتم الإجهاز عليها. الأميركان كان يعنيهم تدمير سوريا، وجاءت مواقف المعارضة بطلب التدخل الأميركي وممانعة الأخيرة، لتقدم لأميركا الغطاء الأيديولوجي لتدمير سوريا بيد النظام، وبصمتها عن ذلك، وبتقديم دعم محدود بما يظهرها وكأنها داعمة للمعارضة.
الحقيقة أن من قال بوجود موقف أميركي مع الثورة هي المعارضة الفاشلة تاريخياً، بينما كان الأميركان دقيقين جدا: لا دعم جديا والممكن هو فقط حل سياسي، والروس شركاؤنا في الحل. وهذا ما تكلل بشكل واضح في التوافق على نص بيان جنيف، وإن فُسر بطريقة مختلفة بين الروس والأميركان، فالدولتان تقتسمان العالم، ولم تنته تلك العملية، فكيف سيتم الوصول إلى حل للسوريين.
أفشلت روسيا ضربات أميركية ممكنة حينما تم سحب الكيمائي بمبادرة روسية، وأفشلت اتفاق جنيف 2، ورفعت أربع أوراق “فيتو” لمصلحة النظام. أميركا لم تهتم أبدا بدعم المعارضة، وكانت تترك النظام يدمر البلاد لإرغام الثورة على التوقف. استنقع الوضع السوري بمعارك الفر والكر، وبدأت عمليات اللعب بالدعم لإجبار الفصائل العسكرية والهيئات السياسية على الخضوع.
النظام والدول الإقليمية وإيران وأميركا كانوا يجهّزون الخيار البديل عن الثورة ألا وهو الجهاديات، وهو ما تم عبر الإفراج عنهم من سجون النظام وباختراقها منه، وبدعم مالي وسلاح من الدول الإقليمية أو من “ممولين خاصين”، وبسبب طبيعة الجهاديات السرية فإنها اختُرقت من الاستخبارات الدولية ولاسيما الأميركية، وتعمل من أجل مصالحها. بتعاظم الجهاديات انتقلت مشكلة سوريا من النظام إليها، وبذلك بدأت أميركا حلفها الدولي ضد “داعش” وهو ما قوّى النظام مباشرة.
أصبحت اللعبة السورية خارجية بامتياز؛ ولا يعدو الكلام الروسي عن دور السوريين في تقرير شؤونهم إلا تعبيرا عن جرأة الوقاحة. والقصد إعادة إحياء المؤسسات الدولية والحفاظ على سيادة الدول، فروسيا أضعف من أن تواجه الأميركان، وبالتالي لابد لها من العودة إلى تلك المؤسسات التي بنيت زمن الاتحاد السوفييتي. الأميركان يفهمون اللعبة جيداً وهم من يديرها ويؤسسون لها؛ ولكن الروس لم يفهموا ذلك. إذا فلسان أميركا يقول: فلتغرق إيران وحزب الله في الرمال السورية أكثر فأكثر، وسيستنزفون كما حالنا في حرب فيتنام، ولتكن سوريا سبباً لثورات، وربما احتجاجات عنيفة في إيران وروسيا. أميركا تريد ذلك، وكل سياساتها ضد الثورة، ودعمها المحدود يوضح أنها ساهمت في تدمير الثورة بذكاء كبير وبسبب غباء الروس والمعارضة السورية.
اقتصاد روسيا ينكمش وتتدهور عملتها بسرعة كبيرة بسبب العقوبات الأوروبية، ومحاولات فلاديمير بوتين في تركيا إطلاق مبادرة جديدة لحل الأزمة السورية لم تفد بشيء. فالغباء الروسي منعها من الانطلاق من التوافق مع الأميركان أي من مبادئ جنيف؛ فهي الوثيقة الوحيدة الجدية القابلة للتوافق. وبالتالي غابت أميركا وحلفها عن المبادرة. دي ميستورا أيضاً خطته فاشلة، فهي لا تنطلق من الحل السياسي بل من ضرورة التمهيد له بتجميد القتال، وهذا ما سيريح النظام وينقل معاركه إلى مناطق أخرى. وهذا ما رفضته قوى المعارضة والثورة عموما
ورداً على المبادرة الروسية جاء دعم الفصائل التي حررت وادي الضيف والحمدانية في إدلب؛ فهذه النقاط محاصرة منذ عامين ولم تسقط إلا الآن. وكذلك تركت أميركا جبهة النصرة تتحكم بريف مدينة إدلب من قبل. وهي رسالة للروس: لا حل سياسيا دون الانطلاق من مبادئ جنيف.
ما لم يحدث التوافق بين أميركا وروسيا بشأن سوريا ستسقط كل مبادرة سياسية ومبادرتا الروس ودي ميستورا ليس لهما نصيب من النجاح. إذا لا حل في الأفق الحالي للوضع السوري.
العرب – وطن اف ام