مقالات

ميسرة بكور – حين تفشل الثورة تأكل أبناءها

قديماً قال المناطقة إن كل نتيجة تلزم بالضرورة عن مقدمات لها، ولا يجادل المجادلون في حتمية صحة هذه النظرية أو الافتراض المنطقي في تسلسل الأحداث من الألف إلى الياء، بناء على ما تقدم فإني أشاهد سقوط حوران, وجنوب سوريا, بيد تحالف الشر الذي تقوده موسكو.

كما قرأنا سقوط غوطة دمشق في يبرود والقلمون وداريا ومن قبل في القصير وبابا عمرو في حمص وسط البلاد.

صرخنا حينها بأعلى الصوت ولم نزل نصرخ، صرخات كانت بمثابة إنذار وصيحة تحذير إلى كل الفصائل والتشكيلات الشامية، التي بتنا اليوم عاجزين عن احصائها بأسمائها وتفرعاتها ومشتقاتها. قلنا لهم ولم نزل نعيد التأكيد على ما سبق وأن سيدنا»عليً» قال: ألا إني أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض! ألا وإني وهنت يوم قُتل عثمان!

ومازال البعض منا يعيش هذا المثل أو تلك الحكاية، دون أن يعطف الماضي على الحاضر قبل أن يغلق الدفاتر ويدفن رأسه في الرمال التي خنقته يوم قرر أن يتجاهل دروس التاريخ وأعجبه العيش، بمبدأ أنا ومن بعدي الطوفان ويبحث عن سلامته فقط وينسى أن الطوفان لا يرحم أحدا.

نعم سادتي الكرام، قد سقطت درعا في غوطة دمشق, وسقطت الغوطة الشرقية حين سقطت داريا ومن قبل يبرود وانسحابات جيش الإسلام التكتيكية الشهيرة، وكان قبل ذلك أن سقطوا جميعاً في حمص القديمة وبابا عمرو، وسيستمر سقوطهم مستمر، كما سقطت غرناطة يوم سقوط طليطلة.

لأنهم جميعاً تنازلوا عن المبدأ الرئيسي في البقاء، الوحدة تحت راية واحدة وقيادة موحدة، ومن يتنازل مرة يتنازل في كل مرة، والمنطق يقول،عندما أعطت الفصائل الموافقة على أكل الثور الأبيض أعطت الموافقة على أكلي.

سيخرج علينا أحدهم وربما أكثر من واحد ليعطينا محاضرة في خذلان المجتمع الدولي للثورة السورية الذي بدأت ملامحه عندما تم تدمير حي بابا عمرو على رؤوس قاطنيه وبعده مجزرة الحولة الشهيرة التي استنفر لها العالم ببيانات الشجب والإدانة، و تم ضمها لاحقاً إلى قائمة طويلة من البيانات والتقارير المتراكمة حول انتهاكات حقوق الإنسان التي يمارسها تنظيم الأسد وحلفاؤه في سوريا منذ عقود طوال، ثم يتبع محاضرته بالقول استخدم النظام السلاح الكيميائي في غوطة دمشق ولم يتحرك أحد ضده لمعاقبته بل تم سحب سلاح الجريمة خدمة للكيان الصهيوني، ومنح تنظيم الأسد المجال واسعاً لاستخدام كل أنواع السلاح للفتك بالثوار السوريين, وكل هذا صحيح، ثم يقولون إن احد أهم اسباب ضعف المعارضة عدم رغبة المجتمع الدولي بالتعامل مع الحراك الثوري السوري على أنه ثورة ضد الاستبداد المستدام الذي رسخه تنظيم الأسد، ونقول هذا صحيح، ويأتي آخر ليقول إن الداعمين الدوليين والإقليميين تلاعبوا بالفصائل من خلال الدعم وتجييرهم تلك الفصائل لتحقيق مصالح الداعم أو الممول، ونقول نعم هذا صحيح، ولكن الذي لا يريد أحد الحديث عنه أو الإجابة عليه، السؤال المنطقي، لماذا قبلنا أن يغرر بنا سياسيا وعسكريا من كل تلك الجهات ؟، إين مشروعنا الوطني الثوري، لماذا قبلنا أن يتم استخدامنا في حروب الوكالة.

نعم صحيح كل الثورات تحتاج لداعم دولي، على أن لا يكون على حساب الثورة بالمقام الأول.

لا أحد يقول بعدم نسج علاقات مع أطراف دولية داعمة لكن أن تصبح الغاية تنفيذ أوامر الداعم وتطبيق ما يريده على حساب المصلحة العامة والمصلحة الثورية، هذا ما لا يقبله عقل عاقل ولا المنطق الثوري، وهذه جريمة لا يريد أحد الحديث عنها ومعالجتها، بهدف الارتقاء بالعمل الثوري، والتخلي عن المبدأ السابق أنا ومن بعدي الطوفان.

المبدأ الذي دمر كل أشكال التضامن والتكاتف العسكري على كل الجبهات وهو المبدأ الذي جعلنا نشاهد سقوط بابا عمرو، والرستن تراقب المشهد عن قرب دون أن تحرك ساكنا.

نعم سقطت يبرود في القلمون – حين تم شراء الأصوات في انتخابات الائتلاف الوطني وستستمر بقية المناطق بالسقوط لأنهم قبلوا التحول من الثورة إلى معارضة سياسية قبل أن تصل إلى محطتها الآخيرة وتنجز التغيير الثوري على الواقع بكل مقوماته.

نعم الثورات تسقط في حال لم تحقق أهدافها، ولم تفلح في استئصال الدولة العميقة التي سيطرت على مفاصل البلد.

«الثورة تأكل أبناءها» حين يبدأ التخوين والتشكيك وتنشطرالنواة الأولى للثورة وتبدأ المحاصصات السياسية والاقتصادية والتقاتل على المصالح قبل إنجاز المهام االثورية.

للأسف الشديد هذا هو الحاصل اليوم في الثورة السورية حيث تعددت الرايات والألوية والولاءات واختلفت، وأصبحت رهينة الدول الحاكمة أو تبعاً لخياراتها، وتغليب المصلحة الخاصة على العامة.

الثورات تفشل حين لا تستطيع تقديم بديل عن النظام الاستبدادي القائم، من فرض الاستقرار في المناطق التي تسيطر عليها الثورة، المقصود بالاستقرار هنا الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي، هذا ما فشلت فيه معظم فصائل الثورة في مناطق سيطرتها حيث تعم فوضى السلاح واستغلال التجار والمناوشات الفصائلية والعشائرية.

صحيح أن الثورة لم تمتلك حت الآن رفاهية أن تحكم لكن التجربة الماثلة بين أيدينا في أدلب ومناطق درع الفرات غير مبشرة ولا تدعو للتفاؤل.

لسنا هنا لجلد الذات أو البكاء على اللبن المسكوب لكن جردة حساب لابد منها كي نضع العجلة على المسار الصحيح، بعد كل هذه التضحيات والدماء الزكية التي سفكت من أجل تحقيق أهداف الثورة المتمثلة بالكرامة والعدالة.

المراجعة مطلوبة وضرورية، علم الاستراتيجيات يقول إن الاستراتيجية يجب أن تكون مرنة وقابلة للقياس والتعديل في حال لم تحقق الغرض الذي وضعت من أجله واستبدالها بأخرى أكثر نجاعة.

الذي نطلبه اليوم كما كان في الأمس التوحد والتخلص من منطق القبيلة والقرية والحي والفصيل، المطلوب استراتيجية ثورية وطنية للتغلب على الواقع المأساوي الذي وصلت إليه الثورة بسبب الخلافات والاقتتال خدمة للمصالح الآنية الضيقة وخدمة للمانحين مع تغييب المصلحة الثورية.

بالعودة إلى أول هذه التدوينة وما قاله المناطقة، المقدمات الصحيحة تعطي نتائج صحية، والمقدمات الخاطئة تعطي نتائج سلبية، كانت مقدماتنا في بداية الثورة صحيحة وتماسكنا وحققنا انتصارات، وصلت إلى ساحة العباسيين وأجزاء كبيرة من دمشق العاصمة، ثم بدأنا في الانحدار عندما تحولنا لمعارضة وغلبنا مصالحنا الخاصة، وبدأ البعض يتحدث بصفة رئيس منتخب، أو قائد منتصر يفرض شروطه على الآخرين ورفض منطق التوافق والتكاتف من أجل تحقيق الهدف النهائي الوصول بالثورة إلى شاطئ الأمن والإستقرار فكانت خيبات الأمل وحصد الندامة.

أين هم اليوم من كانوا يخبئون أسلحتهم لمرحلة ما بعد سقوط الأسد، كلهم ذهبوا وتظل الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح أننا فشلنا في أن نتحدث بمنطق الثورة التي تؤدي لتشكيل دولة القانون والمساءلة.

برغم أن معظم التشكيلات الثورية «المسلحة» العاملة ضمن صفوف الثورة تدعي البعد والعمق الإسلامي إلا أنها فشلت في تطبيق الآية القرأنية ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ).

ولتظل نظرية «معن بن زائدة « الخالدة هي الأنجع لمثل وضعنا والتي تقول :
تأبى الرِّماحُ إذا اجتمعنَّ تكسُّراً… وإذا افتــــرقَنّ تكــسّرتْ آحادا.

المصدر : القدس العربي 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى