مقالات

علي العبد الله – طهران.. مواجهة الحقيقة

توشك طهران، في حال نفذت “وعيد” قادتها بالخروج من الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1، المسمى “خطة العمل الدولية المشتركة”، في حال انسحاب واشنطن منه (وهو ما أعلنه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أمس)، على ارتكاب غلطة العمر؛ والدخول في طريقٍ نهايتها غير معروفة أو مضمونة العواقب.

بنى قادة طهران موقفهم على حساباتٍ جامدة، الخوف من تكرار الضغوط الخارجية للحصول على تنازلات أخرى غير تعديل الاتفاق، من جهة، وعلى رد هشٍّ أساسه “التهديد” و”الوعيد”، أو سياسة الرجل المجنون، كما يطلق عليها محللون، على أمل زرع الشك والتردد عند الطرف الآخر؛ ودفعه إلى التخلي عن طلباته وخططه، من جهة ثانية.

ما يثير أسئلة وعلامات استفهام كبيرة بشأن قدرة إيران على مواجهة نتائج قرار قادتها، ومآلاته القريبة والبعيدة، في ضوء المعطيات القائمة؟

هيمنت على تعليقات القادة الإيرانيين، من المرشد الأعلى إلى وزير الخارجية مرورا بمستشاري المرشد السياسيين والعسكريين ورئيس الجمهورية وجنرالات الجيش والحرس الثوري، الدعوة إلى سياسة “العين الحمرا” و”التهديد مقابل التهديد”، لم تؤثر الأصوات التي دعت إلى التعقل والمرونة في تخفيف حدة موجة التصعيد، وقد اتسع نطاق تهديدات هؤلاء القادة، ليشمل السعودية والإمارات وإسرائيل، تجدد الحديث عن محوها من الوجود، وانتقادهم الاتحاد الأوروبي الذي جنح إلى مسايرة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في قضية الصواريخ البالستية والدور الإيراني في الإقليم، من دون اعتبار لخلفية الموقف الأوروبي: الإبقاء على الاتفاق النووي، وسعى بعضهم إلى تعزيز هذا التوجه، بالدعوة إلى استبدال عسكري برئيس الجمهورية الحالي، وتشكيل حكومة “شبه عسكرية” لإدارة المرحلة ومواجهة التحديات الخارجية.

تجاهلت تعليقات القادة الإيرانيين نقاط ضعف إيران؛ ونقاط قوة خصومها، حيث تقول المعطيات الموضوعية إن النظام والدولة الإيرانيين ليسا في أحسن أحوالهما، إن لجهة التوافق بين تيارات النظام (الخلاف بين المتشددين والإصلاحيين وصل إلى حد التخوين)، أو لجهة شرعيته التي تآكلت كثيرا، وفق ما عكسته التظاهرات الشعبية التي خرجت في نهاية العام الماضي وبداية العام الحالي؛ والشعارات التي رفعتها ضد قادة النظام من المرشد الأعلى إلى رئيس الجمهورية، مرورا بالنظام السوري والمنظمات الشيعية والفلسطينية التي يدعمها (على الرغم من استثمار النظام الهائل في الدعاية التلفزيونية التي تهدف إلى تأمين تعاطف الجمهور مع نظام الأسد الذي يتم تصويره ضحية الهجمات الإرهابية، ومع حزب الله والفلسطينيين، فإن التأثير كان معاكساً. وعلى نحوٍ غير متوقع، أخلى التعاطف مكانه لمشاعر الاستياء.

وسواء كان ذلك عن صواب أو خطأ، يبدو أن إيرانيين كثيرين أصبحوا يعتبرونهم كلهم “إرهابيين”، بمن فيهم زعيم حزب الله، حسن نصرالله، ويلقي الإيرانيون الآن بالمسؤولية على هؤلاء جميعاً في التسبب بعزلة بلدهم الدولية، ويشعرون بأنهم يغرقون في الفقر، بسبب إنفاق موارد البلد في الخارج، وكانت هذه العاطفة قويةً بشكل خاص خلال احتجاجات الريف في أوائل يناير/ كانون الثاني الماضي، عندما نزل الإيرانيون إلى الشوارع ليهتفوا برفضهم لإنفاق الأموال الإيرانية في لبنان وسورية.. الإيرانية كاميليا إنتخابي فرد، “المشهد من طهران” – لوموند ديبلوماتيك: 26/4/2018- ترجمة: علاء الدين أبو زينة، الغد الأردنية: 6/5/2018). ناهيك عما كشفته تطورات السوق الداخلي من نقاط ضعف قاتلة: تراجع النمو العام إلى الصفر، انهيار سعر صرف الريال الإيراني (الدولار 62 ألف ريال في السوق السوداء، و42 ألفا بالسعر الرسمي)، ما دفع الحكومة إلى تقييد تداول العملة الأجنبية: منع تداول الدولار، السماح للمسافر إلى دولة قريبة شراء 500 يورو فقط وللمسافر إلى دولة بعيدة شراء حتى ألف يورو، حظر على المواطنين الاحتفاظ بأكثر من عشرة آلاف دولار أو يورو، إضرابات عمال المصانع بسبب تأخر رواتبهم أشهرا عدة، إضراب المزارعين في أصفهان، بسبب نقص كمية المياه للزراعة (جفاف هذا العام هو الأصعب في الخمسين سنة الأخيرة)، تراجع منسوب مياه السدود، وتراجع إنتاج الكهرباء بأكثر من 40%، انخفاض الاستثمارات الأجنبية، وتجميد المشاريع التي سبق الاتفاق عليها مع دول أوروبية، وقف تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي أعلن عنها الرئيس حسن روحاني، والتي كان مقرّرا أن تتضمنها ميزانية هذه السنة، بصورة كاملة، بسبب التظاهرات والاحتجاجات ضدها لانطوائها على رفع الأسعار وتقليص كبير في الدعم على المواد الاستهلاكية وإلغاء الإعانة الاجتماعية النقدية التي قرّرها الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، والتي كان يستفيد منها 39 مليون إيراني، وتوجهها إلى تحصيل 60% من مواردها عن طريق الضرائب، والضغط الشديد من أجل تقليص مصروفات الحكومة، وانتشار الفساد في أوساط الطبقة “الإسلامية” الحاكمة، ابتداء من عائلة المرشد وحتى مستوى موظفي الدولة الصغار، وصل حدًّا غير مسبوق في البلاد. بالإضافة إلى انتشار حركات وتحركات إثنية، أذرية وكردية وبلوشية وعربية، على خلفية التمييز بين الأعراق الذي يعتمده النظام بانحيازه إلى جانب الفرس، وإعلانه المذهب الشيعي الاثني عشري دينا للدولة، وعدم اكتراثه بالمشكلات الاقتصادية والبيئية التي تعاني منها مناطق هذه الإثنيات.

كل هذا في مناخ توتر إيراني إسرائيلي، في ضوء اعتراضاتٍ إسرائيلية على إقامة مواقع عسكرية إيرانية في سورية، كانت نشرت خريطة لها منذ بعض الوقت، وتعبئة إقليمية ضد النظام الإيراني، على خلفية سياسته الخارجية ودوره المخرّب في دول الإقليم، وتهديد أميركي بالانسحاب من الاتفاق النووي، ما لم يعدّل بصورةٍ ترضى بها، ووقف تطوير برنامجها لإنتاج صواريخ بالستية بعيدة المدى، وإرغامها على تغيير سياستها الخارجية، وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية التي رفعت جزئيا بعد الاتفاق النووي، وعقوبات أخرى، ردا على خرقها قرار مجلس الأمن الذي يمنعها من تصدير أسلحةٍ بإرسالها صواريخ بالستية طويلة المدى إلى الحوثيين في اليمن، وعودتها إلى تبني سياسة إسقاط النظام الإيراني.

يميل قادة التيار المتشدد في الجيش والحرس الثوري إلى رفع التحدّي والدخول في لعبة عض أصابع مع الولايات المتحدة، مع الاستعداد لخوض غمار حربٍ محدودة مع إسرائيل، انطلاقا من الأرض السورية، بحيث يستعيدون صدقيتهم بعد الضربات الإسرائيلية على مواقع للحرس الثوري في سورية، وقتلها جنودا وضباطا، وتوظيفها في مواجهة أكثر من ملف، خصوصا في لجم التحركات الشعبية المتوقعة في ضوء الأزمة الاقتصادية (البطالة والفقر وتدنّي مستوى المعيشة والخدمات)، وتنفيس السخط العميق، والاحتقان، والتوتر الاجتماعي الجارف الذي استفزّه ما يعرضه تلفزيون النظام في دفاعه عن رئيس النظام السوري؛ وأخبار المساعدات التي تذهب لدعم المنظمات الشيعية في لبنان والعراق، والمنظمات الفلسطينية (حركتا حماس والجهاد الإسلامي) في قطاع غزة (كشف موقع “إيران نيوز” المقرّب من التيار الإصلاحي الإيراني أن طهران صرفت أكثر من مائة مليار دولار على مشاريع “فيلق القدس” الخارجية خلال السنوات الخمس عشرة الماضية)، وفي تثبيت حضورها في سورية ولبنان والعراق واليمن، لكنه خيار خطر، وغير مضمون النتائج، في ضوء القرار الأميركي المنتظر بخصوص الاتفاق النووي، واحتمال أخذ الهجوم الإيراني ذريعة لتقديم دعم عسكري مباشر لإسرائيل، ونقل المعركة إلى لبنان والأرض الإيرانية ذاتها.

في الختام، ربما وجدت دول عربية في ضرب إيران وإسقاط نظامها مكسبا لها، وهذا خطأ فادح، ليس للعرب مصلحة فيه، فمكسبها ظاهري، لأن حربا قادرة على إسقاط النظام الإيراني ستكون من الضراوة والعنف والتدمير بحيث لا تسقط النظام الإيراني فقط، بل وتدمر المنطقة، وتدخلها تحت هيمنة إسرائيلية مديدة، بينما مصلحتهم في استثمار قلق النظام الإيراني وارتباكه، والعمل على تشكيل بيئة إقليمية لصالح دول المنطقة وشعوبها بالضغط عليه، للتخلي عن سياساته الراهنة القائمة على تصدير الثورة، وعقيدة نصرة “المستضعفين”، ذلك الشعار/ الغطاء للتدخل في الشؤون العربية والإقليمية، وتفجير الصراعات الداخلية فيها ونشر الاضطرابات، ودفعه إلى الانتقال إلى سياسة الدولة، ووقف التدخل في شؤون دول الجوار، ونشر الحروب المذهبية، والانحياز إلى توافق إقليمي حقيقي، بحيث تفتح ثغرةً في جدار الخوف من الهيمنة الجيوسياسية الذي ساد طوال العقود الماضية، وأحبط فرص التعاون الإقليمي.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى