لكل شيء عينان، عين الرضى وعين السخط. مرةً، وهي المرة الوحيدة التي رأيت فيها فلماً وثائقياً عن عالم الحيوان على الجزيرة الوثائقية، وأشفقت فيها على الجاني آكل اللحم، ضد الضحايا النباتية. نعم، عطفت على التماسيح المسكينة، حتى أني كدت أذرف عليها دموعاً أنهاراً، وهي حيوانات مفترسة، تلي العقرب في رتبة الغدر. بدأ الراوي يندب حال التماسيح الجائعة التي قضت سنة تعيش على الأسودين، وهما: الماء والماء، إلى أن حلَّ زمن الثورات والربيع العربي، واقتربت قطعان أبقار”النو”، وقد كواها العطش، وأضناها عشق الجمال. وليس أجمل منظراً من الماء، بعطش أو من غير عطش، فاقتربت من النهر، متوجسة، تعلو خدودها حمرة الخجل، تقدم حافراً، وتؤخر حافراً، بغريزة الخوف، فالماء هو الحياة إذا شربْتَه، وهو الموت إذا شربَكَ، وقد أخفقت محاولات التمساح الكبير الأولى في الصيد، فكلما همّ بافتراس عجل نفر وفرّ، ثم نسي، فعاد وكرَّ، لكن التمساح الكبير، نجح في اصطياد أول عجل بعد ساعة، والعجول عجولة وعديمة الخبرة. بعد أن تذكر التمساح أن الحرب خدعة، لجأ إلى حيلة الجذع الطافي، أو “اعمل نفسك ميتاً”.
وترامب لا يني يكرر أن دول الخليج أموالها كثيرة وشعوبها قليلة، وقد أنفق مليارات الدولارات على محاربة الشعوب العربية والمسلمة، بذريعة محاربة الإرهاب، وذكرَ أنه لولا الحماية الأمريكية، ما صمدت حكومات الخليج أسبوعاً، وها هو ذا يفترس الأموال العربية بطريقتين، غير طريقة الجذع الطافي، هما الوعد والوعيد، واحدة فيها تهديدُ رفع الحماية، والثانية فيها دلال إيفانكا، التي كتب فيها الحارث الشميري قصيدة يمدح سروالها الذي صار علما بشعبتين.
وقد اعتراني شعورٌ مثل شعوري عند مشاهدة فيلم التماسيح المسكينة، وأنا أقرأ ثناء المشاهير على إعلان زين هذه السنة الشهباء، كان أولهم طارق السويدان، تلته خديجة بن قنة.. فلم أعرف سبب إعجابهما بهذا الفلم المنيل بخمس وسبعين نيلة، فالفلم جذع طافي، يذكّر، بطولةً وغناءً وأصباغاً، بالأفلام الهندية التالية: اليتيم، الولد الضال، ماسح الأحذية.. والأغنية التي أبدى كثيرون إعجابهم بها إخراجاً وكلمات، بليدة، مكسورة الوزن والأجنحة، جبرانية العبارة، لا تناسب عمر الطفل ولغته. ولم يعلّق أحد ممن قرأت على تعبير “رب الأمنيات” الذي ورد في الأغنية. ووجدت مثله في أسوأ أفلام دريد لحام، عندما يذهب إلى شجرة الأماني في فيلم عقد اللولو. والديكور تغلب عليه الصنعة الظاهرة، أما الاستجداء والتسول، فهما يبكيان التماسيح. ثم وجدت أنّ سبب الإعجاب بالإعلان قد يكون من مقارنته بإعلان السنة السابقة، الذي كان فظيعاً ومريعاً، وكان يتبنى الرؤية الغربية في النظر إلى العرب كإرهابيين، وينحاز إلى الثورة المضادة، التي يقودها طرباً حسين الجسمي، مطرب الطغاة العرب، أو لأن مجموعة “MBC” السعودية حذفته، بسبب تطيّرها من ذكر القدس وفلسطين واتهم صانعها بأنه إخواني طهراني، أو لأن بطله طفل، والأطفال يثيرون الشفقة والرحمة، وكان ينقصه كلب حتى يكتمل عاطفياً.
أما أفضل ما قرأت عن فيلم “سيدي الرئيس” فهو منشور طويل لحسان الصفدي، يقول فيه ما معناه: إن الشركة الثرية مملوكة لجماعةٍ من موالي إيران، وهم على مذهبها الديني، ولهم براعات ومهارات في دس السم في الدسم. ويعدد سموم هذا الإعلان فيذكر: الاستخذاء والذل الذي يظهر به العرب في الإعلان، وتمجيد الرئيس الأمريكي الكاوبوي، الذي يقود العالم إلى “مرافئ السلام”، وتجنب ذكر أسباب محنة نزوح الشعوب العربية، ويعرضها كأنها ظاهرة طبيعية، ويوحي بأن سببها الطمع والبحث عن أرض الأحلام.
مدح الإعلان كثيرون، وضربوا صفحاً عن “رب الأمنيات” لدى عرب لورانس، ووجدت أن سبب الإعجاب به ليس رب الأمنيات، ولا رب الأغنيات، قد تكون براعة الماكياج والأصباغ، فقد تعب صناع الفيلم الإعلاني، بحثاً عن أشباه لسيدهم الرئيس الأمريكي والرئيس الروسي، والمستشارة ميركل، وهناك رئيس ثالث لم يعرفه أحد حتى الآن.. إن البقر تشابه علينا.
أما العرب في الفيلم فهم رعية، لا نرى سوى أدبارهم.. ليس لهم وجوه، هم يريدون أن يفطروا في القدس، ويعودوا إلى بلادهم من أجل قيام الليل وبركة السحور. ولا أظن أن أمريكا، التي حوّلت سفارتها إلى القدس، أو ربيبتها إسرائيل، تمانعان في أن نأكل الفطور في القدس، على الدعاء بصوت “الشيخ” أفخاي أدرعي، وهو يقول: للصائم فرختان: فرخة السفارة، وفرخة الزيارة.
وقد يكون السبب في فرح هؤلاء المشاهير النابهين؛ هو إقرار الإعلان بأن القدس عاصمة فلسطين، أو أنه لم ينبذ قطر من عضوية دول الخليج العربي هذه المرة، فغالباً ما يسمي ناشطو دول البلوى قطر بجزيرة سلوى.
أما أنا فما كان مني عندما رأيت الإعلان، والحفاوة التي لقيها، إلا أن أتذكر تلك الشتيمة التي يكثر أبطال الأفلام الأمريكية منها، ويترجمونها تلطفاً باللعنة، وهناك شتيمة أخرى، هي أكثر وروداً على ألسنة أبطال هذه الأفلام، ويترجمها مترجمونا الأفاضل بجملة: تباً لكم.
اللهم إني صائم.
هناك أمر لافت في الفيلم، وهو أنه لم ينسب للعرب فضلا، سوى حب الإفطار في القدس، عاصمة فلسطين، كما أخبرنا الفيلم في استطراد، فهم لا يبادرون لنجدة النازحين، مثل ميركل، كما أن بلادهم بلاد الواقع الأسود وليست بلاد الأحلام.
وجب الشكر علينا.
المصدر : عربي 21