حياة سورية الاقتصادية مرهونة بالحرب، وتتحكم بالاقتصاد أعدادُ المقاتلين، والجيوش، وطرق تمويلها، ومقداره.. وتختلف حياتها الاجتماعية عن التي تظهر في مسلسلات رمضان، فحالة الخراب الراهنة تصلح لذرف الدموع، أما الممارسة السياسية فمقفلة منذ زمن بعيد.
قبل الحرب، كان الحزب الواحد، والرأي الواحد، مع وضع متخلفٍ سياسياً يحرّكه منطق الحفاظ على المصالح، وبعد العام 2011 تحول النظام إلى سياسة إدارة الحروب، منطلقاً من الشرط الابتدائي نفسه، وهو الحفاظ على المصالح التي ظلت محفوظةً حتى هذه الساعة.
الممارسات السورية، وقسمات المشهد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، لم ينحصر تأثيرُها ضمن الحدود السورية، فتشكَّل في لبنان معسكران، ما زالا يتجاذبان البلد حتى هذه اللحظة: معسكر مع النظام السوري، ومعسكر ضده. وشكلت هذه الصيغة مفصلاً في السياسة اللبنانية. وكان نبيه بري، رئيس مجلس النواب الأزلي، مخطئاً عندما ابتكر مصطلح س س (ويقصد السعودية وسورية)، فالمعادلة، في الحقيقة، هي س (سورية) أو ضدها.
لبنان، بشكله وحدوده وتركيبته الحالية، نتاج تسوياتٍ في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، ونتيجة مباشرة للانتداب الراغب بقليلٍ من الفصل المذهبي. كان لبنان موزّعاً على شكل أقضيةٍ وسناجق متداخلة مع زميلاتها السوريات. وكان العثمانيون في أثناء حكمهم المنطقة العربية حريصين، بكل التشكيلات الإدارية المعتمدة للمنطقة، على فصل الساحل عن الداخل، لكن مقص الاتفاقيات الفرنسية البريطانية أوجد الخرائط الحالية، إنما بحساباتٍ تناسب ذلك العصر. وجرى التوافق على شكل لبنان السياسي، بعد عملية إحصاءٍ سريعةٍ لأعداد ملله ومذاهبه، من دون أن يُؤخذ بعين الاعتبار أي شكلٍ للمستقبل، فكان أن خاض لبنان حربه الأهلية نيابة عن الإقليم كله. وبالطبع تدخل الكيان السياسي السوري، وبشكل متذبذب مع أطراف الصراع، إلى أن نجح في إتمام صفقةٍ أبقته سيداً مطلقاً للموقف خمسة عشر عاماً.. بعد انحسار الهيمنة السورية، أعاد لبنان تموضعه السياسي، وأصبح جزءا كبيرا حليفا (أو تابعا) لسورية “بنظامها السياسي”، وجزءا كبيرا آخر ضدها.
نتائج آخر انتخابات نيابية في لبنان أفرزت ما سمي نصراً لحزب الله، بعد الاتفاق عن صيغة انتخابية جديدة، هي خليط يلحظ فيه دخول عوامل النسبية. ولم يغير هذا النصر المزعوم المعادلة المسيطرة السابقة، فجرى الاتفاق على توزع السلطة بما يناسب المعسكرين الكبيرين، ومن دون الالتفاف إلى الكتل التي زادت أعداد نوابها، أو إلى التي تقلص حجمُ وجودها البرلماني، وبقيت العقلية التي تنظر إلى سورية بمناظير مختلفة مهيمنة، وجرى التقاسم على أساسها.
على الرغم من كل شعارات الالتفات إلى الداخل، ومحاربة الفساد، والحد من الاعتماد على الطائفية، يبقى الموضوع السوري الخط العريض في أعلى الصفحة. ولم تنفع كل محاولات التداخل السعودي، أو حتى الإيراني الذي لا يجد له مدخلا إلا من البوابة السورية. وعلى الرغم من تراخي، أو حتى تلاشي، القضية السورية عن كل شيء، بقيت معادلة “مع سورية أو ضدها” متفشية في الوسط السياسي اللبناني.
نقلت المعارك مع إسرائيل من الأراضي اللبنانية إلى الأراضي السورية، وربما كان ذلك بتوافق “جنتلمان” ومن تحت الطاولة. ونَقَل حزب الله قواته إلى الجانب السوري، وجرى تبادل أدوار نموذجي. ولكن ما زال التعافي من اللوثة السورية بعيد المنال، فقد تعالت أصواتٌ عند انتخاب نائب رئيس مجلس النواب اللبناني، إيلي الفرزلي، مندّدةً، بعد اتهامه بالعمالة لسورية، وارتفع سقف الاتهام حد القول إن الهيمنة السورية على لبنان لم تنته مع وجود هذا الشخص في هذا المكان السياسي الرفيع، ربما يكون ذلك صحيحاً، لكن سورية المهيمنة أصبحت كومةً من الإسمنت، ومجموعة من الأطلال. والمشكلة الأساسية في عقلية سياسية تمتلكها المنطقة تتصف بمزايا ثابتة، متجمدة عند لحظة الحرب الأهلية.
المصدر : العربي الجديد