قد لا يحتاج إلى تأكيد قول إن إيران تواجه تحديات حقيقية ومباشرة في سوريا لم تواجهها من قبل أبداً. وأساس التحديات يتمثل في التطورات السياسية والميدانية الحاصلة في سوريا، والتي غيّرت علاقات القوى من جهة، وفرضت وقائع جديدة من جهة أخرى، يضاف إليها ما تشهده إيران من اختلاجات سياسية واقتصادية واجتماعية، ناتجة في الأهم من أسبابها عن تدخلات إيران وسياساتها الإقليمية، ولا سيما تدخلها العميق في سوريا، وما ترتب عليه من نتائج وتفاعلات في الداخل الإيراني.
وتنتظم التحديات الإيرانية، ضمن ثلاث دوائر، أولاها تتعلق بحلفاء إيران وأصدقائها، والإشارة الأهم في هذا السياق ما يظهر من حساسيات العلاقة بين طهران وموسكو، وقد تكرست في تفاوت مواقف الطرفين واختلافهما مرات حول سياسات ومواقف إيران وطبيعتها في السنوات الأخيرة، قبل أن تتصاعد تلك الحساسية من خلال إعلان روسيا ضرورة مغادرة إيران وميليشياتها سوريا مع بقية القوى الأجنبية المسلحة الأخرى للمساعدة في حل القضية السورية، وهو إعلان ما كان لإيران أن تسكت عنه، فقامت بالرد عليه علانية، وأكدت أن وجودها في سوريا مستند إلى طلب رسمي من حكومة الأسد، مما يعني أن وجودها يماثل في مشروعيته الوجود الروسي، مما يوضح موقف طهران دون أن يذهب إلى التصعيد مع موسكو في ملف مرشح لأن يشهد تطورات، قد تكون أكثر أهمية وخلافاً في علاقات الحليفين.
والدائرة الثانية تتصل بالخلاف الإيراني – الإسرائيلي، حول انتشار إيران وميليشياتها في الجنوب السوري، ولا سيما اقترابها من خط وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل في مرتفعات الجولان السورية المحتلة، وهو ما تعارضه إسرائيل بصورة حاسمة، وبسببه تصادم الطرفان، ثم صعّدت إسرائيل من عملياتها ضد مواقع إيران وميليشياتها في سوريا، ومررت إيران الهجمات الإسرائيلية دون أن تعلن عن تغييرات جوهرية في سياساتها السورية.
ومما يزيد من أهمية هذه الدائرة في التحديات الإيرانية دخول الولايات المتحدة عليها من بوابة الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وشن حملات دبلوماسية وإعلامية ضد إيران وميليشياتها وتدخلاتها الإقليمية، وفرض عقوبات جديدة وأخرى على قيادات في «حزب الله» اللبناني ذراع طهران الأقوى، وجميعها سلوكيات تؤكد تناغماً أميركياً – إسرائيلياً من جهة، وتناغم واشنطن مع الأجواء الإقليمية الشرق أوسطية في مواجهة إيران وسياساتها في المنطقة من جهة ثانية، وكلها تقابَل بأقل قدر من الردود.
وتتصل الدائرة الثالثة من التحديات الإيرانية بانعكاسات سياسات طهران وتدخلاتها في سوريا، والتي كلفت الإيرانيين أكثر من ألفي قتيل من الحرس الثوري وحده، حسب المصادر الإيرانية، كما حمّلت الاقتصاد الإيراني من خلال المساعدات المقدّمة لنظام الأسد، وتكاليف الأنشطة العسكرية، ودعم الميليشيات التابعة لإيران، أعباء كان من نتائجها ارتفاع معدلات البطالة وتزايد الفقر، وانخفاض غير مسبوق في قيمة العملة الإيرانية مقابل الدولار بوصوله إلى قرابة 80 ريالاً، وهروب أكثر من 59 بليون دولار من العملات الصعبة في العامين الأخيرين وفق ما أعلن مركز بحوث تابع لمجلس الشورى، وكلها بين أسباب انتفاضة الإيرانيين في وجه حكم الملالي في ديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني) الماضيين، وسقط نتيجتها 25 قتيلاً، وفق أرقام رسمية، ولم يمنع قمع السلطات نهوض حركة احتجاج ومطالب جديدة، وقد سجل الأسبوع الأخير من مايو (أيار) الماضي، احتجاجات واسعة في 242 مدينة و31 محافظة، بلغ معدلها 69 تحركاً في اليوم، مما يؤشر إلى احتمال تجدد الانتفاضة الإيرانية في مواجهة النظام.
وسط حشد التحديات الخطرة، يبدو أن طهران اختارت اتباع سياسة تهدئة في معالجة ملفاتها، على نحو ما تعاملت مع سياسات ومواقف روسيا السورية، حتى لا تذهب إلى مواجهات معها، قد يكون من نتائجها توجه روسيا إلى إخراج إيران من المعادلة السورية، مما سيسبب كارثة استراتيجية لإيران، ويُخرجها من دائرة المكاسب المباشرة من إعادة إعمار سوريا، التي تراهن على المشاركة فيها باستعادة بعض ما دفعته هناك للحفاظ على نظام الأسد وحمايته، وتابعت طهران سياسة التهدئة في تصادمها مع إسرائيل في سوريا بالسكوت عن قصف مواقعها وحلفائها، وأخذت خطاً ليناً في التعامل مع الموقف الأميركي من إلغاء الاتفاق النووي، وتتابع جهودها مع الأوروبيين للحفاظ على دعمهم للاتفاق، إضافة إلى تخفيفها من ردّات فعلها على الحملات الدبلوماسية والإعلامية ضدها.
لعل التعبير الأوضح عن سياسة التهدئة الإيرانية في مواجهة التحديات، ما كرّسه المرشد الإيراني علي خامنئي عبر حدثين قام بهما قبل أيام، أولهما خبر اجتماعه ومساعديه في خطوة هي الأولى منذ عشر سنوات مع الرئيس الأسبق محمد خاتمي المحسوب على الإصلاحيين، حيث جرت مناقشة للأوضاع في ضوء ما يواجه البلاد من تحديات داخلية وخارجية. والآخر بث التلفزة الإيرانية لقطات من لقاء المرشد مع طلاب جامعيين خلال إفطار رمضاني في بيته، سمع منهم انتقادات عنيفة للنظام عن كبت الحريات العامة، وسوء إدارة البلاد والسلطة القضائية، وسياسة احتكار وسائل الإعلام.
إن سياسة التهدئة التي يسعى الإيرانيون إليها في التعامل مع التحديات المحيطة، يمكن أن تخفف الاحتدامات بصورة مؤقتة ومحدودة، لكنها لا تعالج التحديات القائمة، لأنها مرتبطة بطبيعة الدولة الإيرانية واستراتيجيتها القائمة على استخدام القوة والتمدد والسيطرة الإقليمية، وما لم تتغير طبيعة الدولة واستراتيجيتها، فلن تنجح سياسة التهدئة ولن تستمر، مما يعني سقوط إيران في الاختبار الذي تطرحه على نفسها.
المصدر : الشرق الأوسط