مقالات

بشير البكر – لك يا منازل في القلوب منازل

قصصٌ كثيرةٌ يتداولها السوريون عن سريان القانون رقم 10 الذي أصدره رئيس النظام، بشار الأسد، في إبريل/ نيسان الماضي، وحدّد فيه مهلة شهرٍ، لكي يقدم أصحاب الأملاك المتروكة مستندات الملكية، وإلا سوف يسقط حقهم فيها. وتفيد التقديرات بأن المستهدفين بالقرار هم اللاجئون الذين غادروا سورية هرباً من الموت، ويتجاوز عددهم سبعة ملايين، يعيش القسم الأكبر منهم في تركيا (حوالي 3,5 ملايين)، لبنان (1,5 مليون)، الأردن (1,3 مليون)، وحوالي مليون في بقية أنحاء العالم.

هناك مناطق محدّدة مستهدفة بصورة أساسية في القانون، خصوصاً تلك التي تقع ضمن نطاق سورية النافعة والمفيدة. وليس مصادفةً أن توقيت صدور القانون جاء بعد سيطرة النظام على الغوطة وتهجير أهلها، فهذه المنطقة مثل مناطق جوار دمشق مرغوبةٌ ومطلوبةٌ أكثر من غيرها، وهي تلبي ما يطمح إليه النظام من إحداث تجانس طائفي خالص حول العاصمة.

لا يمتلك كل الذين فرّوا من سورية منازلهم، ولكن ليس هذا هو العنصر المهم في المعادلة، لأنها لا تهدف فقط إلى تعفيش أملاك شرائح واسعة من السوريين. هذا هو الجانب المباشر من المسألة، وما لا يمكن ملاحظته بالمعادلات الرياضية هو عملية الاقتلاع التي يخطّط لها النظام وحلفاؤه الإيرانيون والروس، وفق مفهوم التجانس الذي تحدث عنه صراحة بشار الأسد، وعنى به اللون الطائفي الواحد، في عدة مقابلات صحافية، منذ بدأ ميزان القوى يتغير على الأرض، بفضل التدخل الروسي العسكري لصالح الأسد.

اقتلاع الناس من مكانها الأصلي هو المشكلة، ولن يغير في الأمر شيئاً، سواء كان لديهم مستندات ملكية أم لا. يكفي أن يكون الإنسان قد ولد هناك، حتى يستحق المكان، والعلاقة التي تتكون مع المكان لا تنشأ بسند ملكيةٍ، ولا تنتهي بسحب سند الملكية أو إبطاله، لأنها نوعٌ من النسغ الذي يتغلغل تحت الجلد، ويعيش هناك طوال حياة الكائن الذي يظل مشدوداً، ومتعلقاً برائحة التراب الأولى التي لا تنجح أي رائحةٍ أخرى في طردها أو الحلول محلها.

يكفي أن يكون الإنسان سار على الأرض، حتى يستحق الحياة عليها، وهؤلاء الذين تم رميهم خلف الحدود لا يختلفون عن ملايين المهاجرين الذين تركوا ديارهم، وظلوا يتمسكون بحقهم فيها، وتعيش في وجدانهم جيلاً بعد جيل. يكتبون لها الشعر، ويغنون أغاني الحنين، ويبكون هواءها وترابها وأشجارها.

يمكن للأسد وإيران أن يصدروا صكوك ملكية جديدة للأرض والبيوت، لكنهم لن يتمكّنوا من تشكيل ذاكرة حية للمكان، ولا تزييف وعي الناس به. وهذه إسرائيل مثال شاهد أمامنا بعد 70 عاماً على النكبة، لم يتمكن الذين استوطنوا أرضها من أن يبنوا بلداً فوق فلسطين، ويشكلوا هوية تطمس هوية فلسطين، بل على العكس، هم سرقوا كل عناصر الهوية الأصلية، ونسبوها لأنفسهم بما في ذلك الفلافل، لكنهم لم يفلحوا في تزوير المكان، ليناسب روايتهم الخاصة.

الاقتلاع هو الذي جعل السوري يفهم جيداً سر المأساة الفلسطينية التي حصلت عام 1948. وليس مصادفةً أن يأتي قرار بشار الأسد في جوهره مستمداً من القرار الإسرائيلي الذي شرَّع الاستيلاء على أملاك الفلسطينيين الذين طردتهم إسرائيل، حين قامت بالمجازر في كل مكان. وبالتالي صار أهل فلسطين “غائبين”، وتحولت أرضهم بموجب قوانين استعمارية إلى أملاكٍ لدولة الاحتلال.

المسألة على قدر كبير من الأهمية، على الرغم من أنها في بدايتها، وهي تتطلب تحرّكاً من المعارضة والمنظمات الحقوقية لفضح هذا العمل، والقيام بحملة دولية ضد النظام وإيران وروسيا، بوصف ما يقومون به جريمة ضد الإنسانية مكتملة الأركان.

المصدر : العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى