مقالات

ميثاق مناحي العيساوي – لماذا لا تريد أميركا الاستقرار للشرق الأوسط؟

تعد منطقة الشرق الأوسط من أكثر مناطق الكرة الأرضية تقلباً من حيث عدم الاستقرار السياسي والأمني عبر التاريخ، وبقدر هذا التقلب الذي أنهك شعوبها تزداد أهميتها الجيوسياسية والاستراتيجية والاقتصادية، لذلك كانت ولا تزال تمثل محور الصراع والتنافس العالمي بين الإمبراطوريات السابقة وأقطاب النظام العالمي الحالي.

فبعد انسحاب بريطانيا وفرنسا من المنطقة وتراجع دورهما في منتصف القرن الماضي، استوطنت القوة الأميركية المنطقة تدريجياً وأصبحت الإمبراطورية الوحيدة التي تحكم قبضتها العسكرية وتفرض إرادتها السياسية على المنطقة، مستفيدة بذلك من بعض الأنظمة السياسية التي أفرزتها اتفاقية سايكس – بيكو عام 1917.

هذا التنافس الأزلي في المنطقة أخذ أشكالاً متعددة، مرة بحجة الاستعمار، ومرة أخرى عن طريق الدفاع عن الحلفاء، ومرة ثالثة عن طريق الدفاع عن القيم الإنسانية ومحاربة الشر وحماية الديموقراطية وحقوق الإنسان، والشكل الأخير مثّل محور التنافس والصراع الدولي في العقود الماضية ابتداءً من نهايات القرن الماضي وحتى الآن.

ولعل المتتبع للمشهد السياسي وطبيعة الدور الأميركي في المنطقة، يكتشف أن الفكر السياسي الأميركي، بعد نهاية الحرب الباردة، مثّل قمة التطور البراغماتي الأميركي على الصعيد الخارجي، وذلك من خلال سياسته في خلق الأعداء ومن ثم مقاومتها والتصدي لها، وهذان التنافس الدولي وعدم الاستقرار اللذان تعانيهما المنطقة لم يكونا موجودين، لو لم يكن هناك عدو مفترض دائم التنافس يهدد الوجود الأميركي، بغض النظر عن طبيعة هذا العدو، سواء كان نظاماً سياسياً أو جماعات متطرفة أو تهديداً ايديولوجياً.

فالولايات المتحدة عمدت، طوال وجودها السياسي والعسكري وتنافسها الاستعماري على مقدرات الشرق الأوسط، إلى اتباع سياسة خلق الأعداء بشكل أو بآخر، حتى ولو كان صديقاً أو حليفاً سابقاً، أي بمعنى آخر إن الأميركيين يرون ديمومتهم السياسية في المنطقة من خلال هذه السياسة (سياسة خلق الأعداء). وهذه السياسة أخذت أشكالاً وحججاً مختلفة، فتارة بحجة الحرب على الإرهاب وتارة أخرى بحجة التصدي للتهديد الذي تمثله الأنظمة المارقة والديكتاتورية في المنطقة على مفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان (وفق الوصف الأميركي)، وقد تمكنت الآلة الإعلامية الأميركية من تسويق تلك العبارات للرأي العام العربي العالمي بنجاح كبير.

إن القصد من هذه المقدمة هو توضيح فكرة المقال وإيصالها إلى القارئ، وكذلك من أجل التأكد من فرضية المقال وطرح التساؤلات الآتية: هل إن الولايات المتحدة تضع عملية الاستقرار السياسي والأمني في منطقة الشرق الأوسط من ضمن أولوياتها الاستراتيجية بما يضمن مصلحتها الدائمة، أم أنها تتعمد خلق الأزمات السياسية والأمنية التي تضرب المنطقة بين فترة وأخرى؟

وللتأكد من هذه الفرضية تمكن الإشارة إلى بعض تجارب الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.

– التجربة العراقية: بعد إطاحة نظام صدام حسين في عام 2003 كان بإمكان الولايات المتحدة أن تحافظ على بنية الدولة العراقية ومؤسساتها الأساسية، لا سيما الأمنية منها، ومن ثم العمل على خلق نظام سياسي جديد من دون المرور بمرحلة الفوضى السياسية والاقتتال الداخلي بين مكونات الشعب العراقي. هذه التجربة لو تمت بالفعل لكان العراق اليوم أحد أهم أركان النظام الإقليمي في المنطقة، وربما يكون العامل الأساس والداعم الرئيس لعملية الاستقرار في المنطقة، إلا أن الإرادة الأميركية كان لها رأي آخر في أن يكون العراق بيئة مناسبة لخلق التطرف والإرهاب وأن يكون مرتعاً لشتات التطرف الإرهابي في العالم، وأن يكون الحلقة الأضعف في النظام الإقليمي، لأن إضعافه هو إضعاف لركن أساس من أركان الأمن الإقليمي واختلال كبير للتوازنات الإقليمية.

– التجربة السورية: على رغم أن النفوذ الأميركي ضعيف نوعاً ما على الأرض السورية مقارنة ببعض الأنظمة، فإن الثورة السورية التي انطلقت في العام 2011 تركت انطباعاً عاماً بأن الولايات المتحدة لا تريد أن تضع حلاً سريعاً للأزمة وكانت تريد أن يتفاقم الوضع السوري من أجل إرباك الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في سورية والمنطقة بشكل عام، حتى أصبحت الأزمة السورية خطراً يهدد أمن المنطقة بالكامل، والدليل على ذلك ما حدث للعراق في العام 2014 عندما اجتاح تنظيم «داعش» الإرهابي ثلث المساحة الجغرافية للعراق.

– تجربة الاتفاق النووي وشيطنة إيران عالمياً: على رغم الخلاف السياسي بين طهران وواشنطن بعد العام 1979، إلا أن التوصل إلى عقد الاتفاق النووي بين الدول (5+1) وطهران في العام 2015 كانت نقطة تفاؤل كبيرة، أجمع أغلب المتخصصين على أنها تساهم في خفض حدة التوترات السياسية بين الطرفين، وذهب تفاؤل بعضهم إلى إمكان إعادة الانفتاح الديبلوماسي بين إيران والولايات المتحدة، لا سيما أن طهران كانت جادة في إعادة مد خطوط الانفتاح السياسي مع واشنطن من خلال رفعها ليافطات «الموت لأميركا» من الساحات العامة في طهران وبقية المحافظات الإيرانية، إلا أن الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي شكّل ضربة قوية للاتفاق وللجهود الدولية الباحثة عن استقرار منطقة الشرق الأوسط، لا سيما أن هذا الانسحاب لم يبن على قراءة واقعية أميركية بقدر ما كان إرضاءً لأطراف أخرى لم تكن طرفاً في الاتفاق.

هذا الاتفاق كان من الممكن أن يؤدي إلى فتح قنوات الاتصال السياسي والديبلوماسي بين طهران وواشنطن وأن يساهم بشكل كبير في إعادة استقرار المنطقة، إلا أن الانسحاب الأميركي من الاتفاق والهجوم الشرس الذي تشنه الإدارة الأميركية على إيران كانا بمثابة «القشة التي قصمت ظهر البعير»، وهذا ما يعطي رؤية واضحة عن عدم جدية الولايات المتحدة في تثبيت عملية الاستقرار في المنطقة، لا سيما إذا ما قارنّا الجهود الأميركية الحالية وطريقة تعاملها مع الأزمة الكورية من أجل تفكيك الترسانة النووية لكوريا الشمالية وعقد سلام دائم بين الكوريتين، وبين طريقة تعاطيها مع إيران وأزمتها النووية وترسانتها الصاروخية وقضايا الشرق الأوسط بشكل عام.

إن الأدلة كافية لتأكيد النوايا الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، القائمة على تأجيج مناطق الصراع بين فترة وأخرى والاعتماد على سياسة خلق الأزمات الداخلية والخارجية وترجيحها لسياسة الصراع والمواجهة مع إيران وتأجيج الصراع العربي – الفارسي، على سياسة التفاهمات والحياد والتواصل السياسي والديبلوماسي بين واشنطن وطهران وبين طهران والدول الخليجية. ولذا فإن عملية الاستقرار في المنطقة صعبة جداً في ظل العداء الأميركي الإيراني، وعلى الدول الباحثة عن الاستقرار الداخلي أن تعتمد على جهود فردية داخلية بعيدة من التدخلات الأميركية والإيرانية ومن الصراع الإقليمي.

المصدر : الحياة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى