كانت هلسنكي المكان المفضل للقاء بين زعماء الاتحاد السوفييتي السابق ورؤساء الولايات المتحدة، وأهمها بين جورج بوش الأب وميخائيل غورباتشوف، آخر كرادلة الاتحاد السوفييتي، وخصص اللقاء، حينئذ، لحل قضايا الأمن القومي، ثم انهار الاتحاد بعد ذلك ببضعة أشهر فقط. والآن، وفي مناخ يوصف بأنه الأسوأ في العلاقات التي تسود البلدين منذ انتهاء الحرب الباردة، قرّر الرئيسان، الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب، أن يلتقيا في هذا المكان بالذات، والمادة المفضلة للتناول هي الأمن القومي..
هذا ما صرّح به بالفعل المستشار جون بولتون الذي زار موسكو، والتقى بوتين في وقت سابق من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، وبولتون من نجوم سياسات ترامب، جاء به في وقت متأخر، وهو رجل قادر على تحويل أفكار ترامب إلى حقائق سياسية، وهو الذي قال إن مجرد لقاء الرئيسين إنجاز له قيمة.. وهي طريقة بولتونية لاستباق فشل القمة، فيمكن ألا يخرج عن اللقاء شيء سوى جلوس الرئيسين على انفراد بعض الوقت من دون اتفاق مهم، مع بقاء احتمال أن يسفر وجود الرجلين معاً، وجهاً لوجه بعيداً عن الحاشية، إلى اختراقات غير متوقعة. ومع ذلك، كم من القضايا في العالم يمكن أن يناقشها الطرفان؟!
سيأتي بوتين من أجواء احتفالية، بعد أن يكون قد حضر المباراة النهائية لكأس العالم، وقد يكون مزهواً بنجاح بلده في احتضان التصفيات. أما ترامب فسيكون قد خرج للتو من اجتماعات القمة لأعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وقد يؤدي ذلك إشارة خاطئة لحلفاء أوروبا الغربيين بأن يترك قمتهم ليلتحق ببوتين، ولدى ترامب حساسية من المنظمات ذات الدول المتعدّدة، وحساسية أخرى تجاه أوروبا، وحساسية ثالثة تجاه دول الجوار، وتظهر هذه الحساسية على شكل قوانين ضريبية، أو قوانين عزل على الحدود، أهمها الضرائب الشبيهة بالعقوبات التي طاولت كل واردات الحديد والصلب من أوروبا. وقد ظهرت حساسيته ضد التجمعات الدولية بوضوح بعد خروجه من اتفاقيات التجارة الحرة، واتفاقية باريس للمناخ، والاتفاقية الجماعية مع إيران، وهو لن يخرج من “الناتو” بطبيعة الحال، لكنه سيدخل إلى الاجتماع، ويعلو سحنته احتقارٌ للتجمعات الدولية، ولو كانت ذات طبيعة دفاعية أو عسكرية كحلف الناتو.
قد يتيح وجود الرئيسين في القمة المرتقبة وجهاً لوجه جواً حميماً لا ينغّصه وجود مستشارين متحفزين لتسجيل كل حرف، لكن لقاء من هذا النوع قد يؤدي مفعولاً عكسياً إذا حاول كل رئيس لعب دور المحلل النفسي، أو نصب الشراك للآخر. ولا يخفي ترامب هذه الهواية، فقبل لقائه المنفرد مع الزعيم الكوري الجنوبي، مون جي إن، قال إنه قادر على تحليل كيمياء الزعيم من الدقيقة الأولى. وهنا، لدى بوتين، كيمياء خاصة، لعلها أميل إلى البرودة والتكتم والرغبة في الإنصات، بدلاً من الانطلاق في الكلام الذي يوقع في المشكلات.
من الممكن أن يبقى العالم كما هو بعد القمة، لكن العلاقة بين البلدين سترتفع حرارتها ولو قليلاً، وقد لا توضع بعد ذلك في خانة أسوأ العلاقات منذ الحرب الباردة، خصوصا وأن معركة درعا ستكون قد حُسمت، وليس هناك ما يمكن أن يتباحث فيه الرئيسان بشأنها، ولن يتم الحديث عن سوق النفط العالمي، وتكتيكات ترامب الأخيرة. وقد لا يتطرق الحديث إلى الوضع في أوكرانيا، فقد سكت الجميع بعد عامين من ضم القرم. ويبدو أن قصة الهجوم بالغاز السام على عميل روسي في بريطانيا قد استنفدت وقتها. أما مسألة إيران، فيتم درسها بشكل أساسي مع إسرائيل، ولن يبقى إلا الحديث عن أساليب جديدة في تطوير العلاقة بين الرجلين، وبالتالي بين البلدين، ومحاولة القفز فوق هذه الفترات الصعبة في العلاقات بين البلدين، وقد يجد الرئيسان بعض الوقت للحديث عن كرة القدم.
المصدر : العربي الجديد