يتم فهمك في العراق جيداً عندما تقول: «أنا من جيل الحصار»إ. فلا أحد يغامر في التشكيك في معاناتك. قد يشفق على سنوات شبابك المهدرة، الشيوخ الذين انفتح وعيهم في ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية أفضل سبقت الحصار الاقتصادي المرير الذي فرض على العراق في تسعينات القرن الماضي، وينظر إليك جيل الاحتلال الأميركي والحروب الطائفية كهاتف أرضي بلا تطبيقات ذكية، وأحياناً يتحدثون بلغة الحنين إلى سنوات لم يشهدوها، ويصنفون مرحلتهم بأنها الأسوأ.
في الحقيقة لا شيء يمكن أن يحفر في تاريخ الشعوب أكثر عمقاً مما حفر الحصار الأميركي الذي امتد لثلاثة عشر عاماً في ذاكرة من عايشوه ودفعوا أثمانه، ويومها كان العراقيون يصرخون بلا جدوى من خلف الأسوار العالية التي أقامها التحالف الدولي: «إننا نحن، وليس صدام حسين، وليس أي من قادته ورفاقه وأركانه، من يعاقَب».
تلك مقدمة ضرورية لفهم موقف العراقيين من تداعيات العقوبات الدولية التي يتوقع تصاعدها ضد إيران، والظن أن هذا الموقف الاعتباري لن يتغير وسيكون مثار اتفاق عام ينتمي إلى فهم شعبي عميق بأن العقوبات بالطريقة الأميركية ستمزق جسد آخر مواطن قبل أن تصل إلى باب قصر الحاكم.
وفي مقابل أن العراق لن تكون له يد في تلك العقوبات لو أقرت فعلاً، كما لن يكون لموقفه المعارض تأثير حقيقي، فإنه ينظر بارتباك لاحتمالات أن يدفع ضريبة موقفه الأخلاقي المفهوم من العقوبات الاقتصادية، وكان سيكفي مثلاً التذكير بأن دول المنطقة تتقدمها إيران التزمت بحصار التسعينات، من دون أن تقع في الحيرة التي يقع فيها العراقيون اليوم.
الخطير في المشهد، أن العراق هو الطرف الاقرب والأكثر عرضة للضرر جراء اي مواجهة أميركية– إيرانية سواء كانت على مستوى تبادل رسائل القوة، أو باستخدامها فعلاً.
وتبدو المعادلة معقدة بالفعل، فالعراق لا يأمل أن يجبر على المشاركة في المقاطعة الاقتصادية لإيران، لكنه قد يدفع ضريبة تلك العقوبات سواء التزم بها أو لم يلتزم، فيما لو قررت طهران أن ردها سيكون كما جرت العادة على أرض جارها التاريخي.
ومن المتوقع جداً أن ينعكس هذا الوضع الحرج، على مفاوضات تشكيل الحكومة العراقية، مثلما ينعكس على أداء الحكومة في المرحلة المقبلة، وطريقة تعاطيها مع احتمالات التصعيد.
في الكواليس، مازال بعض السياسيين العراقيين يتحدثون عن أن طهران وواشنطن تبحثان عن صفقة، والنظرية التي ترى أن إيران ستمر بالمراحل التي مر بها العراق قبل احتلاله عسكرياً، غير قابلة للتطبيق، ويسوقون أمثلة عن فروق جوهرية بين نظام صدام حسين الذي لم يكن يمتلك أذرعاً إقليمية بفاعلية الأذرع الإيرانية، وبين طبيعة الاقتصادين العراقي والإيراني، وحتى عن أسلوب الحكم وآلياته.
لكن اصحاب نظرية الصفقة أنفسهم، يقرون بأن العراق سيكون ساحة الرسائل الملغومة الكبرى في المنطقة، حتى التوصل إلى تلك الصفقة، وأن انقساماً عراقياً حاداً قد يترتب على وضعه أمام خيار «معنا أو علينا».
بعض أشد المتحمسين لاستعادة الدولة العراقية من نظامي الوصاية الإيراني والأميركي معاً، يشعرون بالقلق من عدم قدرة أي حكومة عراقية على إقناع الطرفين بحياد بغداد إزاء الأزمات المرتقبة، ومع ضعف الوضع السياسي وتفتته لن تسمح القوى المحلية بهذا الحياد، لكنها في الوقت ذاته لن تتمكن من دفع البلد إلى الاصطفاف هنا أو هناك، ولن تتردد في إعادته إلى فخ التصادم الداخلي.
وأزاء هذا القلق كله، من الضروري التذكير بأن الأطراف الإقليمية والدولية في الصراع، لن يهمها كثيراً حماية العراق من الانزلاق مجدداً إلى المحظورات التي أنتجت أكثر لياليه سواداً، وأن أجواء التفاؤل بتحقيق إجماع نادر على دعم وحدة البلاد واستقرارها وأمنها وإعمار مناطقها من آثار الحرب على «داعش» قد تتبدد مع اهتمام الدول بمصالحها ودفاعها عن استراتيجياتها، ما يتطلب من العراقيين المزيد من الحذر، والمزيد من العقلانية والتمسك بالتوازن كمدخل أساس في إدارة الأزمة.
المصدر : الحياة