الفوز بكأس هلسنكي أصعب من الفوز بكأس المونديال. هنا لا تكفي البراعة في المناورة. ولا التمريرات السريعة. ولا الضربات الركنية. ثمة ثقل يلقي بظله على طاولة القمة. ثقل آلتك العسكرية. وقوة اقتصادك. وتقدمك التكنولوجي. وتحالفاتك. وقدرتك على تحريك أوراقك وتوظيفها.
والفوز بكأس المونديال مرهون إلى حد كبير بقدرة المنتخب على تقديم أداء متكامل بين أعضاء فريقه على رغم أهمية لمعان النجوم وتسديداتهم. والمبارزة هنا تدور بين رجلين. يمكن القول إنها تدور بين ملاكمين كبيرين. الرئيس الروسي أقوى من مؤسسات بلاده التي صاغها وفقاً لمشروعه وجعلها طوع بنانه. والرئيس الأميركي جاء من خارج القاموس الذي أنجب أسلافه، لهذا تحاول المؤسسات ضبط مفاجآته والتكيّف معها.
لا مبالغة في القول إن هلسنكي تستضيف اليوم موعداً بين قويين. غيّر فلاديمير بوتين موقع روسيا الخارجة من الركام السوفياتي. غيّر أيضاً صورتها. وقاد عملية ثأر واسعة من القوى التي يتهمها بالسعي إلى إذلالها وتطويقها. في محاولته العزف على الروح العميقة سعى إلى إيقاظ عظمة روسيا التي تصدعت في عهد ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين. برنامجه هو «روسيا أولاً». وعلى الضفة الأخرى يتحرك دونالد ترمب لاستعادة عظمة أميركا رافعاً شعار «أميركا أولاً».
رجلان يختلفان كثيراً فقد شربا من ينابيع متناقضة. جاء بوتين من جهاز الـ«كي جي بي». معلمه الحقيقي هو يوري أندروبوف الرئيس السابق للجهاز وزعيم الاتحاد السوفياتي أيضاً. جاء من عالم الأسرار والمكائد والضربات الغامضة التي لا تترك أثراً. يحمل في نفسه جرحاً عميقاً فهو يعتبر سقوط الاتحاد السوفياتي أكبر كارثة جيو – استراتيجية في القرن العشرين. وجاء ترمب من عالم الأعمال والفرص العقارية وتلفزيون الواقع. وهو أيضاً يتهم أسلافه لا سيما باراك أوباما بتبديد عظمة أميركا وحقوقها في التعامل مع خصومها وكذلك مع حلفائها.
واضح أن بوتين يعتبر مجرد انعقاد القمة كسباً له بعد الضربات التي وجهها في القرم وأوكرانيا وسوريا، فضلاً عن الضربات الغامضة على الأرض البريطانية. يعتبرها نجاحاً يساهم في تقويض العقوبات الأميركية والأوروبية على بلاده. ثم إنه برع قبل الموعد في استكمال أوراقه. استكمل قلب المعادلة على الأرض السورية وأخرج مصير الرئيس بشار الأسد من أي نقاش. يمكن القول إنه وضع العالم وأهل المنطقة أمام خيار صريح: إما سوريا الروسية وإما سوريا الإيرانية. وسوريا الإيرانية غير مقبولة إقليمياً ودولياً فضلاً عن أنها وصفة مثالية لحروب مديدة. لعب ببراعة وخدع خصومه التقليديين وشركاءه الجدد. مناطق «خفض التصعيد» بدت مضحكة. لهذا يشعر رجب طيب إردوغان أن بوتين خدعه بهذه الألعاب تماماً كما خدع أوباما في ليلة القبض على الكيماوي السوري. وتوج أوراقه بتنظيم ناجح للمونديال أوحى أن الغضب الغربي على نظامه لا يعني بالضرورة أن روسيا مهددة بالعزلة. ثم إن التوقيت ملائم تماماً. أوروبا تتلوى على مأساة المهاجرين والطلاق البريطاني كشف هشاشة البيت الأوروبي والأطلسي.
وقبل موعد هلسنكي اتخذ ترمب قرارات كبرى وصعبة. خرج من الاتفاق النووي مع إيران على رغم المناشدات الدولية والأوروبية. وصافح ديكتاتور كوريا الشمالية. وراهن على أن العقوبات الموجعة ستدفع إيران إلى المجيء مجدداً بحثاً عن اتفاق سيلجم هذه المرة ليس طموحاتها النووية فقط بل أيضاً برنامجها الباليستي وسياسة زعزعة الاستقرار التي تنتهجها. وفي الطريق كسر ترمب الأعراف والبروتوكولات في التعامل مع مجموعة العشرين والاتحاد الأوروبي وعنّف قادة دول الأطلسي على ترددهم في رفع إنفاقهم العسكري. البروتوكول كان بين ضحاياه أيضاً حين التقى ملكة بريطانيا التي درجت على إعطاء أهمية قصوى للتفاصيل.
لا مبرر للمبالغة والاعتقاد أن موعد اليوم سيرسم مصير الخرائط وشعوبها. لسنا في عالم المعسكرين الأميركي والسوفياتي. لا يكفي أن يتفق الرجلان ليسود الصمت وينصاع الجميع. ثمة رجل قوي غائب. إنه الرئيس الصيني الذي يأخذ على محمل الجد قرارات ترمب وبوادر الحرب التجارية. وريث ماو هو المنافس الحقيقي لأميركا في المرحلة المقبلة؛ لأن مرابطة روسيا على الأرض السورية لا تلغي أن بوتين لم يحقق قفزة في عصرنة اقتصاد بلاده.
وعلى رغم ما تقدم، تبقى قمة هلسنكي شديدة الأهمية. من الصعب توقع تغيير في مصير القرم بعدما أعيد الفرع إلى الأصل. يمكن التطلع إلى خفض التصعيد في أوكرانيا والعودة إلى البحث عن حلول. ومن المستبعد أن يقر بوتين بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولو أثارها شريكه في القمة. والأمر نفسه بالنسبة إلى استهداف العميل المزدوج في بريطانيا. يمكن توقع التوجه نحو تفادي سباق تسلح مفتوح بين الدولتين، فبوتين يعرف أن الاتحاد السوفياتي انهار بفعل تكاليف سباق التسلح والفشل الاقتصادي.
في هلسنكي ستظهر نتائج ورقة برع بوتين في لعبها. منذ تدخله العسكري في سوريا في سبتمبر (أيلول) 2015 لم يهمل لحظة واحدة موضوع أمن إسرائيل. يمكن القول إنه سمح أو غض النظر عن الضربات الإسرائيلية المتكررة لميليشيات إيران على الأرض السورية. أقام مع نتنياهو علاقات تشاور دائمة ساهمت في تحويل الملف السوري من مصير نظام إلى مصير الوجود العسكري الإيراني في سوريا. ويرى دبلوماسيون أوروبيون أن ترمب ليس معنياً هو الآخر، وقد يسمع من بوتين أن الإضعاف التدريجي للنفوذ الإيراني في سوريا يمر بالضرورة عبر إعادة تأهيل نظام الأسد وتوسيع سلطته على حساب الميليشيات. وهنا يخشى الأوروبيون أن يقدم ترمب تنازلات من دون ضمانات بأنه سيتقاضى في المقابل تقليماً لأظافر النفوذ الإيراني في سوريا والإقليم.
حين وصلت إلى هلسنكي بعد الظهر كانت المدينة منشغلة بالحرب الفرنسية – الكرواتية. ما أجمل هذه الحروب التي لا تمزق خرائط ولا ترسل أمواجاً من اللاجئين. لكن كأس المونديال قد حسمت. لهذا سينشغل العالم اليوم وفي الأيام المقبلة بالسؤال عمن فاز بكأس هلسنكي هل هو «ترمب الصاخب» أم «بوتين الرهيب»؟
المصدر : الشرق الأوسط