عشتُ عشرَ سنوات من الحرب الأهلية اللبنانية على وقع العجائب والمعجزات. خلال حرب السنتين، هربنا إلى ضيعتنا، حيث كانت الأجراس تُقرع بانتظام، لتخبرنا أن العذراء ترشح زيتا في بيت فلان، أو أنها تنزل دموعا في الصورة الموضوعة أمام مذبح الكنيسة، أو أنها ظهرت في شريحة رأس بطاطا، أو أن تمثالها استدار عن القرية، دليلا على استيائها من ضعف الإيمان. في أكثر العجائب، هي السيدة مريم التي كانت، على ما يبدو، تعبّر عن حبّها الكبير لبنان. يسوع لا يظهر كثيرا، لا وحدة حال بينه وبين المؤمنين، كما هي الحال مع والدته البتول. الأمر نفسه تقريبا جرى في يوغوسلافيا السابقة، حيث كثرت ظهورات العذراء في مديغورييه، وهي قرية كرواتية ضمن منطقة البوسنة والهرسك، ما حوّلها لاحقا إلى مكان عالمي للحجّ يؤمّه الملايين.
بعد انتهاء حرب السنتين، وعودتنا إلى بيوتنا في بيروت، استؤنفت العجائب، إنما هذي المرة في ضواحي بيروت الشمالية والشرقية، بعد فرز المناطق طائفيا، وطرد المسلمين منها والفلسطينيين. أذكر واحدةً انطبعت في ذاكرتي بشكل عميق، إذ قيل إن محلةً في النبعة بدأت تُخرج من أرضها بخورا، وأن الرائحة انتشرت بشكل كبير، فأقيمت القداديس، وأشعلت الشموع، وتهافت المؤمنون للبحث عن البخور بين الوحول. قيل إن مار شربل قد حوّل الحجارة بخورا، وكان ذلك في العام 1977. لكن بعد فترة، عُلم أن مصنعا للصابون كان قائما في المحلة، قبل أن يتم تدميره بالكامل بفعل الحرب.
مع انتهاء الحرب في لبنان، وخروج المسيحيين منها خاسرين، ازداد التمسّك بالإيمان، مضافا إليه، هذه المرة، شعور بالاستضعاف وبالتهميش، وبكونهم أقلية في محيط إسلامي. صارت السخرية من رموزهم الدينية بمثابة استهداف لهم وتصغير وتحقير لا يستهدفان، في المقابل، طوائف أخرى، وإن حصلا، قامت الدنيا ولم تقعد.
في الحادثة المتعلقة بشربل خوري وجوي سليم اللذين سخرا، أخيرا، في تعليقين لهما على وسائل التواصل من رجلٍ صرّح بأن زوجته الرومانية حملت من بعد طول انتظار، إثر زيارته صرح مار شربل وتقديمه النذور، جاءت السخرية على شاكلة نكتةٍ ذات طابع جنسي، ولا أظن أن الهجوم على المعلّقيْن كان ليحمل كل هذا العنف، لولا أنهما لا يحملان اسمين مسيحيين، شربل وجوي.
كل هذا العنف؟ دعونا لا نبالغ. فلا فتاوى صدرت بتحليل دمهما، ولا مظاهرات سارت مندّدةً، داعيةً إلى محاكمتهما، ولا أعمال شغبٍ أو تكسيرٍ أو حرائق، من دون أن يعني ذلك غياب السفاهة والبذاءة والتهديد عن التعليقات ضدهما. خلاصة القول إن ما جرى يحتاج وضعه في موضعه الصحيح، وأخذ المسافة الكافية منه، ومعناه: من حق أي إنسانٍ أن يسخر مما يريد، وليس من حق أيّ سلطةٍ أن تكمّم فاها، أو أن تمنعه من التعبير عن رأيه، كما فعل القضاء اللبناني حين منع شربل خوري من استخدام وسيلة تواصل اجتماعي طوال شهر، أو كما فعل حين حكم بالسجن على آخرين، لمجرّد أنهم علّقوا ضد سياسيّ. هذا من الثوابت والمسلّمات التي لا نقاش فيها ولا ردّة عنها. ومع ذلك، ليس الضرب على من هو في موقف الضعيف من ثوابت الحرية والأخلاق، حيث ينبغي الإدراك أن ردّ الفعل يعدو الحدثَ وسخفه، مبرزا وجود خلل عميق في الهويّات.
قالت صديقتي سلمى، وهي شابة مارونية مغرمة بشاب مسلم تنوي الزواج به: إن تعليق شربل خوري جاء أشبه بنكتة، على عكس تعليق جوي سليم الساخر المؤذي، فهل تجرؤ الصحافية في صحيفة الأخبار، على المساس بولي نعمتها، السيد حسن نصرالله، أو الهزء من آل البيت أو من أحد الأولياء؟ ثم أضافت: في لبنان، الديني متصّل دوما بالسياسي. شربل خوري نفسه صرّح بأن الهجمة عليه جاءت من القوات اللبنانية، لأنه ينتقدها دوما. أتراه بسخريته من الأعجوبة المنسوبة إلى مار شربل، كان يسخر، ليس إلا، من القدّيس ابن القرية الشمالية التي تجاور قرية زعيم القوات؟
المصدر : العربي الجديد