مقالات

ميشيل كيلو – حرية التخوين والسباب

تسهم وسائل التواصل الاجتماعي في تأسيس مجتمع من نمط جديد، ترتكز وحدته على حرية أفراده واحترام خصوصياتهم. ولا يعني هذا أن هذه الوسائل تقوّض المجتمع القائم، أو تطلق معاول الهدم والتخريب فيه، وكيف لها ذلك إن كانت تعمل لترقيته، بما تتيحه لأفرداه من انفتاح تواصلي، وتبادل حر للمعلومات والمعرفة، ومن تفكير ببدائل لما يواجهونه من أوضاع ومشكلات، من دون خوف من عقابٍ تنزله بهم دولة طغيانية عميقة الأجهزة، تكره الحرية والمعرفة والمواطن العارف.

تخشى النظم المغلقة وسائل التواصل، وما تمد مجتمعاتها به من مواد إعلامية تخفيها أجهزته عنها. وتخشى ما تحققه من استقلاليةٍ في فضاء معلوماتي لا يخضع لها، ولا يروّج ذلك النمط من الوعي الذي تعمل لتكريسه في عقول مواطنيها، ويشوّه ما يجري في المجتمع والعالم من وقائع، وصولا إلى تجميل ما في حياة الخاضعين لها من بؤس وتهافت، أو إنكاره.

بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، تخلق مجتمعا مفتوحا وحرا في مواجهة المجتمع المغلق أو المتخلف القائم، وتعاظم تأثيرها بقدر ما أنجزت وظيفتها في مجتمعاتٍ تتحكم بها نظم طغيانية، ومكّنت المواطن من المشاركة في فضائه المفتوح، كذات حرة لا قيد على حقها في التعبير عن نفسها، وفي التفاعل مع آخرين لم يعرف هويتهم مسبقا، لكن علاقاته التفاعلية معهم تدعم حريته وحريتهم بالتبادل وتوسعهما، بدعم وتوسعة قدرتهم على وعي أنفسهم وعوالمهم بالتطابق مع مكنوناتها وحقائقها، وبما يتاح له من معلوماتٍ تضع المعارف التي يحتاجها في متناول يديه، وتمنحه حق استخدامها بالطريقة التي تروقه.

لم يتوفر كثير من هذه الوظيفة لوسائل التواصل الاجتماعي السورية التي تنتمي إلى “الثورة”، ومال معظم مؤسسيها إلى تنصيب أنفسهم قضاة على خلق الله عامة، والثوريين منهم خصوصا، وشرعوا يوزّعون تهم الخيانة والعمالة بسخاءٍ لا حدود له، وأدلة تنتمي إلى وساوس تصبب عادة مرضى نفسيين، يتوهمون أنهم يخوضون حربا ضد خونةٍ نجحوا في السيطرة على مواقع وتنظيماتٍ عليهم فضحهم وطردهم منها، على الرغم من أنهم يتقنون جميع أنواع التخفي والتقية، ويستولون، عبر خطط لا يتقنها أحد مثلهم، على مواقع قياديةٍ، في ثورة لم يبقوا منها غير اسمها الذي صادروه بدوره.

من كل عشرةٍ أسسوا مواقع تواصل اجتماعي، اعتمد ثمانية هذا النهج الذي قدم من المعلومات للنظام عن الثورة ما كان سينفق ملايين الدولارات، كي يحصل عليه، ولعب دورا خطيرا في جر مجتمع الثورة إلى الهاوية، وزرع جسمها الضعيف بكل ما هو فتاكٌ من شائعاتٍ وأنصاف حقائق، أثارت قدرا من الانقسام فاقم انقساماته بدل أن يخلصه منها، وحال، بنصيب وافر، دون ما كان السوريون بحاجة إليه: قيادة ثورية موحدة، تمتلك الوعي الكفيل بإيصال الشعب إلى حريته، بانتزاع المبادرة السياسية والعسكرية من النظام.

بدل القيادة الموحدة، برزت عشرات القيادات، وبدل تجفيف مصادر الخلافات الكثيرة، نشبت حربٌ ضروس، طاولت كل شخص وقضية، وانقسمت الثورة الغائبة إلى ثوراتٍ حاضرة بقوة، كل واحدةٍ منها هي الصحيحة، وما عداها خائنة كولي أمرها: بشار الأسد.

ثمّة فائض فوضى في وسائل التواصل “الثورية” أنتج حرية هلوسة وانحطاط لا يحترم أصحابها أنفسهم أو أحدا، ويرفضون أي لغةٍ في التعامل مع الآخرين غير لغة الشتم والتخوين التي يبرزها إعلام الأسدية لإثبات خيانة كل معارض. واليوم، يكفي أن تفتح أي موقع إلكتروني، لترى أن التخوين يغطي كل من أسهم في ثورة السوريين، ويكتم أنفاسه، ويرهق روحه المعنوية وشجاعته الأدبية، ويقوّض كرامته الوطنية والإنسانية.

المصدر : العربي الجديد 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى