مقالات

محمود الوهب – جبهة تعاند الزمن.. في سورية

تنشأ تحالفاتٌ، في كلِّ بلدان العالم، بين أحزاب سياسية، تستدعيها ظروفٌ محددة، وغالباً ما تنشأ تلك التحالفات بين أحزاب تتشابه، أو تتقارب في الغاية والهدف، وقد تتباعد أحياناً، لكنَّ تكتيكاً ما، تبرّره أو تشرِّعه براغماتية السياسة وفقهها، قد يفرض نفسه أحياناً. ومن واقع ما يجري في عالم السياسة، نرى أن التحالفات لا تدوم، بحكم حركة الحياة، فهي في تبدلٍ مستمر، يفرضه الواقع المتغير، ومصالح الأطراف المتحالفة.

لكنَّ “الجبهة الوطنية التقدمية” في سورية باقيةٌ على حالها، مستمرةٌ في صمودها، متحدية حركة الزمن 46 عاماً.. إنها تماماً كما حال صمود رئيسها الحالي أمام تدمير “بلاده”، وقتل مليون من أهل هذه البلاد، وتهجير ما يقارب نصف المواطنين، ناهيكم بالذين اعتقلوا أو صاروا من العجزة أو المعوقين.. نعم هي صامدة، على الرغم من سقوط أهدافها الواردة في ميثاقها الذي وقعته خمسة أحزاب غير شرعية قانونيا.. إذ لم يكن هناك قانون للأحزاب السياسية في سورية لدى قيام تلك الجبهة في السابع من مارس/ آذار عام 1972..

وبالمناسبة، صارت تلك الأحزاب خمسة عشر، إذ توالدت وتكاثرت ضمن حاضنها وقابلتها حزب البعث الذي لم يطاولْه حَمْلٌ، ولا مخاضٌ، طوال تلك الفترة، إذ اكتفى بالحضانة، ورعاية المواليد الجدد، وتربيتهم على محبة الزعيم رئيس الجبهة، مذكراً إياهم بأحد بنود ميثاقها الذي يقضي بأن يكون الأعضاء مؤدبين في سلوكهم السياسي، وفي علاقاتهم الداخلية:

“تتعهد أطراف الجبهة غير البعثية بمنع أيِّ صراع، أو تناحر في أوساطها”، أما ما يتعلق ببعض أهدافها الأكثر أهميةً لتلك الجبهة، فقد جاء في مقدمتها: “تحرير الأرض العربية المحتلة بعد الخامس من حزيران عام 1967 كهدف مرحلي في نضال الأمة، وهذا الهدف يتقدّم جميع الأهداف المرحلية الأخرى. وفي ضوئه، يجب أن نرسم خططنا في كافة المجالات”. كما ورد أيضاً أنَّ “إقرار مسائل الحرب والسلم أمر يخص الجبهة”. وثمّة بنود عن “البناء الاقتصادي والتنمية”، إضافة إلى بند ينصُّ على “العمل المتواصل من أجل الوصول بالحوار الإيجابي، والتفاعل الجماهيري داخل الجبهة، إلى التنظيم السياسي الموحد”. وجاء في ختام الأهداف: “يطمح ميثاق الجبهة في خاتمته جعل تجربة الجبهة في سورية نموذجاً يحتذى به في الوطن العربي الكبير، لتلتقي القوى الوطنية والتقدمية في جبهة واحدة ضد قوى التخلف والتجزئة والاستعمار، لتحقيق أهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية”.

ولا أظننا بحاجة إلى أيِّ تعليق.. إذ يكفي أن نمعن في هذه الأهداف، ونخطف نظرةً من الواقع السوري، لنعرف كم أنجزت هذه الجبهة، وخصوصا ما يتعلق برأس أهدافها الذي بحثه أخيراً رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، مع رئيس روسيا، الرفيق بوتين، مبلغاً إياه بوضوح تام: لا تنازل عن الجولان أبداً.. وهو ملتزمٌ باتفاق فصل القوات لعام 1974 الذي احترمه كل من الأب والابن في سورية.. ولا مانع لديه من عودة الجيش السوري إلى الطرف الثاني من الحدود. ويجري ذلك كله والجبهة التقدمية صامدة حتى اللحظة، تلبي حاجة قيادتها في الراتب والسيارة، وسوى ذلك من مسائل “نضالية”. إذ يصفها حنين نمر، عضو قيادتها المركزية ممثل الحزب الشيوعي السوري الموحَّد في برقية تعزية موجهة لآل الفقيد عمران الزعبي الذي شغل منصب نائب رئيس الجبهة في سورية بقوله: “هذا التحالف الوطني الواسع الذي يضم المكوِّنات السياسية التقدمية في البلاد”، كما يذكر المحاسن النضالية للمتوفى، بدعمه تلك المكونات وتطويرها: “لقد عمل الراحل الكبير خلال الفترة القصيرة التي شغل فيها هذا الموقع على تنشيط هياكل الجبهة، وتطوير أدائها وإعادة تفعيل دورها في العمل السياسي..”.

وإذا كان حنين نمر قد نسي ميثاق الجبهة وأهدافه، إذ كان على نقيضٍ منها لدى تأسيسها، فلا أظنه ينسى ما حدث له ولغيره، حين كان عضواً في اللجنة العليا للحوار الوطني عام 2011 التي رأسها فاروق الشرع، بغية إيجاد حلول لاحتجاج الجماهير السورية التي ملأت الشارع السوري، تهتف للحرية والكرامة.. أقول لا أظن حنين ينسى أنَّ الرفيق الشاب أدهم الخطيب، ابن مدينة درعا، قد ألقى أمام لجنة الحوار كلمة باسم منظمة اتحاد الشباب الديمقراطي، التابعة للحزب الشيوعي، ضمَّنها مطالب الشباب، وطلبت، حينئذ، قيادة الحزب من الشاب، وحنين في مقدمتها طبعاً، أن يعدِّل في الكلمة، بما يلائم قيادة الجبهة “الوقورة الموَقَّرة”، لكنَّ الشاب رفض التعديل، وهو الذي جاء والده عضو اللجنة المنطقية للحزب الشيوعي في درعا إلى مكتب الحزب في دمشق، ليعرض على قادة حزبه آثار سياط أجهزة الحزب القائد للجبهة، واتهامها له بأنه أمير جماعة إسلامية متطرّفة.

عندئذ، وردّاً على كلمات أخرى أيضاً، قامت قيامة عملاء الأجهزة الأمنية داخل لجنة الحوار “الوطني”، وقلبوا الطاولة في وجه أعضاء اللجنة المشكلة بمرسوم جمهوري، في أوقات مفصلية من تاريخ سورية.. ومن هؤلاء عمَّار ساعاتي، صاحب السوابق في تأديب المعتصمين، (وبعضهم من الشيوعيين)، إذ كان يرسل بعض الطلاب المقرّبين لينوبوا عن الأجهزة في تفريق هؤلاء وإهانتهم، وضرب النساء والشباب (هذا ما حصل قبل 2011 أمام وزارة الداخلية في المرجة، وفي حي باب توما)، وتساند بثينة شعبان الساعاتي لتكرَّ المسبحة  الأمنية كلها، ولتسقط لعبة الحوار أو خدعته، وليعلن بعدها الحل الأمني، وتغرق البلاد بالدم، وتفتح الحدود السورية أمام المرتزقة من كل بقاع الأرض، وتسود الفوضى والإرهاب..

جاءت “قوة” الجبهة الوطنية التقدمية في سورية وتماسكها من خلال التأثر في الجبهات التي دعا إلى تكوينها الاتحاد السوفييتي السابق، إبّان الحرب الباردة لمناهضة الإمبريالية والاستعمار، في بعض البلدان الاشتراكية، وفي بلدان العالم الثالث التي جرت فيها انقلابات عسكرية، وصفت وطنيةً وتقدمية.. وقد تلقفها حافظ الأسد الذي استلم السلطة بانقلاب عسكري مبارك من الروس (السوفييت) والأميركان، على السواء (أوَّل رئيس أميركي زار سورية هو الرئيس ريتشارد نيكسون عام 1974). وجاءت الزيارة آنذاك في ضوء قبول الأسد بقراري مجلس الأمن 242 و338 اللذين تضمنا، فيما تضمناه، انسحاب إسرائيل من هضبة الجولان كاملة.. وكذلك بترحيب بريطاني أيضاً، إذ ذكرت يومَها صحيفة التايمز البريطانية أنَّ “معجبي الجنرال الأسد يرحّبون بالاستيلاء على السلطة داخل حزب البعث الحاكم، باعتباره انتصاراً متوقعاً للبراغماتية على الأيديولوجيا”. ويبدو أن البراغماتية تعني، فيما تعنيه، التفريط بحقوق الشعب والوطن، في سبيل البقاء على الكرسي.. إذ إن مقولة السوفييت: إن غاية العدو الإسرائيلي من حرب عام 1967 ليست في كسب أراض جديدة، بل بإسقاط النظام “الوطني التقدمي”، لا تزال قائمة.

المصدر : العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى