حين تقرأ خبراً سريعاً عن رحيل أحد نجوم الفن، يتبادر إلى ذهنك أهمُّ ما قدَّم من أدوار، وتنسى أنه كائن بشري، كان يعيش حياته الخاصة، ولديه بيت وعائلة، وربما كان يمارس ما تمارسه أنت، كلَّ يوم، مثل أن ينزل بملابس النوم إلى البقَّال القريب، ليشتري بعض المعلَّبات، فكثيرون مِن هؤلاء النجوم انحسرت عنهم الأضواء، وسمعنا بما يمرُّون به من أزمات مالية، وكثيرون منهم ماتوا وهم لا يجدون ثمن العلاج، وبعضهم قد غيَّبهم الموت، ولم تجد عوائلُهم مصاريف الجنازة والدفن، حتى تبرَّع بها متبرِّع، أو تكفَّل بها الجيران والأصدقاء، وليس زملاء المهنة.
تبادر إلى ذهني ما علِق فيها، ولم يغادر ذاكرتي، دور لا ينسى لممثلة الإغراء هياتم، وفنان الكوميديا محمد شرف، أما سوسنة الثورة السورية، مي سكاف، فلها حكاية أخرى. هياتم مِن الوجوه التي لم أُحبها يوماً على الشاشة، وقد كرهت دورها في فيلم “غريب في بيتي”، حيث تقوم بدور الفتاة الساقطة التي تغري لاعب كرة القدم الفلاح الذي قدم من قريته، للمشاركة في المنتخب الخاص ببلاده، لكي يحقِّق له الفوز، وقد كان هذا اللاعب من الشبان “البكر” أو “الخام” وليست له دراية، ولا خبرة بالنساء، فأوقعته هذه الفتاة بحبالها، بإيعاز من زملاء له في الفريق نفسه، لم يحبُّوا أن يسحب بساط الشهرة، وما تجلبه من مال ونفوذ، من تحت أرجلهم. نقمتُ عليها كثيراً، وهي تنسج حبائلها حول هذا الفتى الخام، كما كان يطلق عليه أبي. وتوحي هذه الكلمة بموحيات محبَّبة، خصوصاً بالنسبة للشاب أو الرجل، وكنت أسعدُ حين يردّدها أبي، فبداخلي ذلك الخوف المبهم من عالم الرجال المخادعين الكاذبين الذين يعذِّبون قلوب العذارى، كما كانت تصفهم أمي.
وهكذا صنّفت هذه الهياتم ضمن من أكرههم من الممثلات، ولم أقتنع بأيِّ دور قدمته؛ لأن كل أدوارها كانت مكرَّرة، وتعتمد على الإغراء، وكنت أَعَجب من إصرارها على تقديم هذا الدور، حتى حين اكتنز جسدُها بزيادة لحمها وترهله.
ولم يسطع نجم الراحل حديثاً، محمد شرف، كثيراً، لكنه عانى من الخذلان والفقر في أواخر عمره القصير، فهو الصديق الخائن في نظري، وقد ارتبط في ذهني بدوره في فيلم “صباحو كذب”، حيث يستغل فقدان صديقه بصره، فيستولي على أمواله وممتلكاته، ويوقعه في شباك فتاة ليل، لكي تحصل على آخر ما يمتلك. وساءني جداً أنْ تصل الحقارة في البشر إلى هذه الدرجة، من استغلال عجز الآخرين. ولست أذكر دوراً له غير هذا الدور، سوى المناشدات التي كنت أقرأها كلَّ حين من أفراد أسرته لعلاجه وتوفير الرعاية الصحية له، والتي حقَّقت له شهرةً لم يكن يتوقَّعها.
أما مي سكاف، فهذه، كما قلت في البداية، حكاية أخرى، منفردة؛ لأن هذه الفنانة من أيقونات الثورة السورية، بحضورها وجمالها الرائق، ووقوفها إلى جوار شعبها؛ فلقِّبت بالفنانة الحرّة، واصطفَّت في وقت مبكر في صفوف المقاومة، واعتقلت مرتين، حتى غادرت سورية سرًّا، ولها رصيدُها الفني الكبير، لكنها ثائرة نادرة عميقة الإيمان بالحرية والكرامة.
رحل الفنانون الثلاثة في الأيام القليلة الماضية، ولسنا نطلب منهم، ومن أجلهم، سوى السلام لأرواحهم، فلسنا ملائكة لنحاكمهم، ولا آلهة لنصنِّفهم: هل هم من أهل الجنة، أم النار، فلكل امرئ ما نوى، ولا أحد يعلم بسريرة الآخر. إنهم أنماط من البشر عاشوا وماتوا، وبين العيش والموت، كان لكلِّ واحدٍ منهم طريقُه الذي انتهى نهاية موحَّدة، هي الموت، فلا نسأل عن الطريق. ولكن لنسأل عن نهاية الطريق التي تنتظرنا جميعاً. لو وقفنا هنا، لما علَّقنا المشانق لهياتم وأمثالها، ولما تشدَّقنا بمعتقداتنا بأن أهل الفن ينتظرهم المصير الأسود، لأنهم أصحاب مهنة، مثلما نحن بالضبط من أصحاب المهن، ولما طأطأنا رؤوسنا، في خجل، أمام الثائرة مي سكاف.
المصدر : العربي الجديد