زعماء دول العالم الثالث دون استثناء هم بالضرورة وكلاء (أي عملاء) لدول عظمى تحميهم مقابل تنفيذهم لطلباتها وحمايتهم لمصالحها.
عميل مزدوج
(نظام الأسد) يختلف عن بقية أنظمة دول العالم الثالث هذه أنه وبحكم دوره في المنطقة وموقعه الجغرافي، فهو (عميل مزدوج) للمعسكرين الرئيسيين: فهو ضامن لأمن إسرائيل وحدودها الشمالية وبالتالي محمي من قبلها وقبل أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وهو أيضاً ضامن للقواعد العسكرية لروسيا في المنطقة وبالتالي محمي من قبلها وقبل من يدور في فلكها. هذا دولياً، أما على الصعيد الاقليمي، فهو أيضاً ضامن لمصالح إيران، والمحسوبة حالياً على روسيا، وبالتالي محمي من قبل آيات الله.
هذه الحقائق كانت معروفة قبل الثورة ولاتزال معتمدة حتى اليوم، وبالتالي فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا، وبشكل أو بآخر، ساهمت كل هذه الدول، بشكل مباشر أو غير مباشر، بإيصال هذا النظام إلى شفير الهاوية لتعود بعد ذلك وتنتشله وتبقيه في الحكم؟ الإجابة على هذا السؤال بالذات ليس بالسهل، فأي من هذه الدول كانت قادرة ومنذ البداية على إجبار النظام على إنهاء الاحتجاجات السلمية أو الثورة المسلحة، بتقديم تنازلات وإصلاحات للأولى أو بالقوة للثانية، ولكن لماذا تركوه يتخبط ثم يوغل بدماء الشعب ويدمر البلد وتركوا الفصائل المسلحة توغل بدماء جيشه وحلفائه، فهذا هو جوهر هذا المقال.
خط أحمر
هذا النظام والعائلة الحاكمة فيه هو خط أحمر لكافة الدول السابقة الذكر، وهي لا تسمح برحيله، وإلا لكان رحل كما رحل القذافي وبن علي وصالح ومبارك، والسبب الرئيسي أنه الضامن لأمن وأمان إسرائيل. وكافة هذه الدول التي دعمته سراً أو علناً، هي أيضاً تكرهه كونه كما ذكرنا عميلاً مزدوجاً، أو على الأقل لها ثأر ماضي معه كونه أساء لها في مرحلة ما وبشكل ما، وبالتالي وجدت في الثورة ضده الفرصة المناسبة لتلقينه درساً موجعاً دون أن تزيله. ولكن وفي الوقت نفسه استغلت تلك الفرصة لتقوية نفوذها في البلد باضعافها له وبمصادرتها لقراره السياسي والاستيلاء على موارده الاقتصادية، وسأختصر هنا الدافع لكل دولة لتوجيه صفعة له. أمريكا تعلم أن هذا النظام كان وراء أو ساهم استخباراتياً في تفجيرات المارينز في لبنان عام 1983 كما أنه كان وراء تسريب الأخبار التي أدت إلى فضيحة (إيران- كونترا غيت) عام 1987 والتي عصفت بإدارة الرئيس (ريغان) وكادت تطيح بها. وهو أيضاً من سهل دخول المسلحين الجهاديين عبر حدوده إلى العراق لمحاربة القوات الأمريكية بعد غزو عام 2003 مما دفع الرئيس (بوش الابن) حينها إلى حشد الجيش الأمريكي على الحدود السورية واتخذ القرار بالغزو لاسقاط النظام لولا تدخل رئيس الوزراء الاسرائيلي حينها (نتنياهو) وثنيه عن ذلك مقنعاً له أن (أمن إسرائيل من أمن النظام)، وهذا ما عاد وذكر به (رامي مخلوف) في بداية الثورة، مما أجبر (بوش) حينها على عقد تفاهمات مع عدوته إيران والتي قادت إلى هيمنة الأخيرة على العراق فيما بعد. ولذلك وبعد قيام الثورة السورية عام 2011 قامت الإدارة الأمريكية بتقديم الوعود بمساعدتها سياسياً وعسكرياً، مما شجع المتظاهرين السلميين على حمل السلاح وأعطى الثورة الأمل بالانتصار العسكري وألحق بالنظام العشرات من الهزائم العسكرية على طول البلاد وعرضها وعشرات الآلاف من جنوده الذين قتلوا خلال المعارك.
هناك ثأر مشابه لفرنسا مع هذا النظام، والسبب وقوفه وراء تفجيرات باريس في مطلع الثمانينيات وخروجه قبل ذلك من العباءة الفرنسية التي ضمنت أن تلبسها سوريا ثمناً لمنحها الاستقلال. ولم يكن الثأر البريطاني مختلفاً بعد اتهامه للنظام السوري بمحاولة تفجير طائرة ركاب إسرائيلية في مطار لندن عام 1986 مما أدى إلى قطع العلاقات بين البلدين لعدة سنوات في حينه. كافة هذه الدول الغربية والحليفة لبعضها وجدت الفرصة مناسبة لمعاقبة النظام وهي تعلم مسبقاً أن توجيه الضربات له لا يجب أن تؤدي إلى إسقاطه لأن ذلك يضر بأمن وأمان حليفتهم الرئيسية والأقوى في المنطقة وهي إسرائيل.
الأصدقاء الرسميون
هذا عن خصوم النظام الظاهريين، ولكن ماذا عن أصدقائه الرسميين، وخاصة الروس، ولماذا لم يضعوا ثقلهم منذ البداية للقضاء على الثورة أو تسويتها في أيامها الأولى ويوفرون على (مختار المهاجرين) الكوابيس التي مر بها عبر تلك السنوات. وهنا قد لا يذكر البعض أن للروس أيضاً ثأراً تاريخياً مع هذا النظام يعود إلى حرب حزيران/يونيو حين كان (الأسد الأب) وزيراً للدفاع وكان وراء هزيمة تلك الحرب عام 1967 والتي اعتبرها الروس أيضاً هزيمة لسلاحهم ومعداتهم العسكرية مقابل تلك الأمريكية والأوروبية. ثم وجه لهم صفعة ثانية خلال فترة حكم الرئيس (غورباتشيف) حين طلب الأخير من (الأسد الأب) دفع الديون المستحقة لروسيا وإلا فلن يبيعه المزيد من السلاح، فما كان من الأخير إلا أن تحول إلى الصين، المنافس الاقتصادي والسياسي والعسكري الأول لروسيا في آسيا في ذلك الوقت. أحدث صفعة كانت حين طلب النظام من إيران، وليس روسيا، أن تأتي لنجدته في بداية الثورة وبعد أن شارف جيشه على الانهيار، واحتقار الروس للنظام يثبته وصفهم لرئيسه (بذنب الكلب) وأيضاً المعاملة المهينة التي تلقاها (مختار المهاجرين) مرتين: الأولى حين تم شحنه إلى روسيا في طائرة شحن عام 2015 للقاء (بوتين) والثانية حين زار الأخير قاعدة (حميميم) العسكرية في اللاذقية مطلع العام الحالي. الهزائم والإهانات التي لحقت بنظام الأسد ساهمت في النتيجة بتقوية النفوذ الروسي في سوريا وضمنت وجودها العسكري وهيمنتها السياسية والاقتصادية إلى أجل غير مسمى، وخاصة فيما يتعلق بحقوق استثمار البترول والغاز الطبيعي. للإيرانيين أيضاً مشكلة مع هذا النظام تتلخص بالعداء التاريخي الذي حكم ولايزال المذهبين الشيعي والعلوي منذ نشأتهما، وما التحالف الذي نراه بينهما اليوم إلا أشبه بزواج المتعة والذي لن يلبث أن ينفرط حين زوال السبب وهو تحالفهما ضد عدو واحد يتمثل بأتباع المذهب السني.
كما أن للإيرانيين ثأرا مع نظام (الأسد الأب) حين أعلن الأخير الحرب على (حزب الله) الذي أسسته إيران في جنوب لبنان كجناح عسكري لها في شرق المتوسط، واستعمل الأسد حينها حليفه الشيعي (حركة أمل) لخوض تلك الحرب بالوكالة والتي انتصرت فيها إيران وفهمت حينها أنها لا يمكن أن تثق بنظام الأسد وأن التحالف بينهما هو مرحلي ليس إلا، وأن دعمه لها في حربها مع العراق لم يكن حباً بها وإنما حماية لنظامه ولابتزاز جيرانه العرب من أصحاب الثروات البترولية ليس إلا. وقد لعبت إيران نفس الدور الروسي، حيث شجعت النظام على الحل العسكري وتركته يتلقى الضربات الموجعة من الفصائل المسلحة من جهة ولتوسع تدخلها وانتشارها على كامل سوريا.
أخيراً لا يخفى على أحد الثأر الدفين الذي تحمله غالبية الشعب السوري ضد عائلة الأسد والذي يعود إلى المجازر التي ارتكبها الأخير في السبعينيات والثمانينيات وعلى رأسها مجزرة حماة عام 1882، وبالتالي فقد وجد الشعب بكافة أطيافه في تلك الثورة الفرصة لتصفية الحساب. ولاشك أن الخسائر الجسيمة بالأرواح التي لحقت بالنظام وأقليته الطائفية كانت فوق التصور وستبقى في ذاكرتها لعشرات بل ومئات السنين. ومن جهتي، فاني أرى أن الدولة التي تضررت حقاً مما حصل للنظام هي إسرائيل، وهي الدولة الوحيدة المجاورة والتي يمثل ضعف نظام الأسد تهديداً لأمنها القومي.
كان المراقبون يصفون نظام الأسد دائماً بالذكاء لكونه عميلاً مزدوجاً ويتقن اللعب على الحبلين كما يقال. ولكن يبدو أن من يلعب هذه اللعبة هو كمن يلعب بالنار، وخاصة إذا كان صغيراً ويلعب مع الكبار، إذ أن هذا السبب نفسه هو الذي أدى فيما بعد إلى وصوله إلى قرب الهاوية وأدى إلى إعادة البلد مئات السنين إلى الوراء، والمنتصرون الوحيدون في النهاية كانوا أعداء الوطن..
المصدر : القدس العربي