مقالات

مروان قبلان – وجهة نظر عن انهيار الغرب

مع تصاعد الشكوك بشأن مستقبل النظام الليبرالي الدولي، في ضوء الضرر الذي تلحقه به سياسات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تعود إلى الواجهة الطروحات التي تقول بانتهاء عصر الهيمنة الغربية، الأميركية تحديداً، واتجاه النظام الدولي إلى حال التعدّدية القطبية، اقتصادياً في هذه المرحلة على الأقل. ومع أنه يجدر عدم المبالغة في البناء على هذه الطروحات، والقفز إلى استنتاجات سريعة من خلالها، إلا أن هذا لا ينفي أن هناك وجهة نظر لها وجاهتها وتنبغي مناقشتها.

ويقود المدرسة الفكرية التي تقول بانتهاء الهيمنة الغربية في العلاقات الدولية اثنان من أبرز المؤرخين البريطانيين الذين يعملون في جامعات أميركية، بول كيندي الأستاذ في جامعة ييل، ونيل فيرغسون، الأستاذ في جامعة هارفرد وكلية هارفرد للأعمال. يتحدث كيندي عن انتهاء الهيمنة الغربية منذ ما قبل نهاية الحرب الباردة، بناء على المعادلة التي أوجدها بين القوتين الاقتصادية والعسكرية. أما فيرغسون فقد اتخذ من الأزمة المالية عام 2008 منطلقاً للتبشير بها. وعلى الرغم من الانتقادات الكثيرة التي توجه إليه، باعتباره من دعاة “النزعة المركزية الأوروبية”، الا أن فيرغسون يحاول جديًا الإجابة عن سؤال: لماذا يسير الغرب في طريق الأفول؟

وذلك من خلال طرحه بطريقة معكوسة، أي: كيف تمكنت بضع دول صغيرة في شمال غرب أوروبا ابتداء من العام 1500 من السيطرة على العالم في المقام الأول؟ يحاول فيرغسون الإجابة عن هذا السؤال عبر ستة عوامل، يسميها (killer apps)، يرى أنها مثلت جوهر الفرادة الغربية، وعبّدت طريقها نحو الهيمنة، وهي: احتدام المنافسة والصراع بين دول أوروبا الغربية وداخلها. ثورة العلوم، التي انطلقت في القرن السادس عشر. نشوء حكم القانون والحكم التمثيلي (الديموقراطية والمواطنة القائمة على الملكية الفردية والتمثيل السياسي الذي يعكس إرادة المجتمع). تطور الطب الحديث. ظهور المجتمع الاستهلاكي الذي حفز ثورة الصناعة، وسمح بالإبداع والابتكار. وأخيراً، أخلاق العمل.

هذه العوامل التي تفرّد بها الغرب، ولعبت دوراً مركزياً في صعوده، ظلت ضعيفة لدى “الآخرين”، لكن هؤلاء بدأوا اللحاق بالغرب، وكان أول اللاحقين اليابان التي تمكّنت، منذ أواخر القرن التاسع عشر، من مواكبة كل هذه المجالات، باستثناء الحكم التمثيلي. وبحلول الربع الأخير من القرن العشرين حققت الصين قفزات كبيرة في مجال الصناعة والتحديث. ومع دخول القرن الجديد، بدأنا نشهد نهاية 500 عام من الهيمنة الغربية، واحتدام الصراع بين القوى الغربية الآفلة والقوى الآسيوية الصاعدة. والسؤال الذي يشغل فيرغسون هو: سيبدأ انتقال الغرب (الولايات المتحدة) من حال الضعف إلى حال الانهيار الكامل، كما حصل مع كل الإمبراطوريات السابقة؟

وفق فيرغسون، نشهد فعلياً نهاية عصر الهيمنة الأميركية، وأحد أهم المؤشرات للوصول إلى هذا الاستنتاج هو الدَّيْن الفيدرالي الأميركي الذي تضاعف ثلاث مرات خلال أقل من عقدين، إذ ارتفع من 32% من الناتج القومي عام 2001 إلى 66% عام 2011، إلى أكثر من 100% اليوم. وفيما يتراجع الغرب، تخطو الاقتصادات الأخرى خطوات سريعة نحو الأمام، فالصين باتت اليوم الاقتصاد الثاني في العالم، أما الهند فتوشك أن تزيح بريطانيا عن المرتبة الخامسة، بعد أن أزاحت قبلها فرنسا، فيما تحتل البرازيل المرتبة الثامنة. أي أنه بين الاقتصادات الثمانية الكبرى في عالم اليوم لدينا أربعة غير غربية، إذا أضفنا إليها اليابان.

لم يكن هذا الوضع قائمًا حتى تسعينات القرن الماضي، عندما كانت الاقتصادات الغربية الخمسة الكبرى (أميركا، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، كندا) تمثل 44% من الناتج الصناعي العالمي. لكن هذا كله تغير بعد الأزمة المالية عام 2008، واشتداد الانقسامات الحزبية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والاستنزاف الأميركي في حروب الإرهاب والعراق وأفغانستان. بالنسبة إلى فيرغسون، تأتي الانهيارات أحياناً سريعة ومباغتة، فالحضارات أنظمة شديدة التعقيد، تعمل وفق توازن دقيق. وفي لحظةٍ تاريخيةٍ معينة، قد يبدو أن هذه الأنظمة تعمل بشكل طبيعي، لكن عندما تصل الأمور إلى مرحلة حرجة، فإن أي خضّة بسيطة قد تطلق شرارة الانهيار. قد تبدو هذه الأفكار، في ضوء الواقع الراهن، مجرّد فذلكات أكاديمية، لكنها مع ذلك جديرة بالاهتمام.

المصدر : العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى