أن يصف دونالد ترامب مستشارة سابقة في البيت الأبيض بالمسعورة والكلبة، هذا بالتأكيد يرفع من أسهم تغريداته على «تويتر»، ولا يُستبعد أن يرفع من رصيده لدى جمهوره الشعبوي. كان في وسع الناطقة باسم البيت مثلاً، تكذيب مزاعم المساعدة السابقة أوماروسا مانيغولت، والدعوة إلى الاحتكام إلى القضاء، سواء لتفنيد ما قالته في حق الرئيس أو بسبب انتهاكها قرارات سارية في البيت الأبيض بخصوص السرية والأمن.
لكن مهلاً، ليس هذا أسلوب ترامب. مهلاً مرة أخرى، الأمر لا يتعلق فقط بمزاج شخصي. ففي قضية أخرى ينظر فيها القضاء، لا يتورع ترامب عن إصدار أحكامه الشخصية المستقلة، فيكرر مديحه لمدير حملته الانتخابية مانافورت، على رغم إدانته في المحكمة، واصفاً إياه بالرجل الجيد والشجاع جداً، على العكس من محاميه السابق الماثل أمام القضاء، الذي يقول عنه: إذا بحث أحدهم عن محام جيد، أقترح ألا يستعين بخدمات كوهين.
في هذه الأثناء، لم يتوقف ترامب عن انتقاد وسائل الإعلام، وكان سبق له اعتبار نصره في انتخابات الرئاسة انتصاراً على الصحافة الأميركية، ولم يخلُ الأمر من معاقبة مراسلة في البيت الأبيض لشبكة إخبارية كبرى. ومع أنه أُرغم على الرضوخ لتقارير استخباراتية تؤكد التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية لمصلحته، إلا أنه في أكثر من مناسبة أشار إلى تأكيد بوتين عدم حدوث التدخل، كأن كلمة بوتين «المتهم بأنه وراء التدخل» هي أعلى من كلمة المؤسسات الأميركية. في كل الأحوال، يبقى ترامب مصراً على تشبيه تحقيق مولر بمطاردة الساحرات، متجنباً تشبيهه بمثال أقرب من محاكم التفتيش هو المكارثية.
إننا في مواجهة مجموعة من المعطيات الترامبية تدفع إلى القول بوجود هجوم مستمر، وشبه ممنهج، على مرتكزات الديموقراطية. هجوم متواصل على الصحافة التي توصف بالسلطة الرابعة ضمن الديموقراطيات بما تمثّله من سلطة رقابة مجتمعية على السلطات الثلاث، وهجوم صريح على القضاء الذي باستقلاليته يضمن توازن أداء السلطتين التشريعية والتنفيذية. تزامن هذا الهجوم مع اتهام موسكو بتنفيذ هجمات إلكترونية، وربما غير إلكترونية، للعبث بالعملية الديموقراطية في الولايات المتحدة وغيرها، يعني أن الديموقراطية تتعرض لهجوم مزدوج. ولا تفسّر المصادفة وحدها أن يكون دفاع ترامب عن نفسه بطريقة الانقضاض على الديموقراطية، أي بتحقيق ما تريده موسكو بتدخلاتها، من دون أن يؤشر ذلك بالضرورة إلى اتهام ترامب بقدر ما يشير إلى صعود موجتين من العداء للديموقراطية، كلّ منهما لأسباب وغايات خاصة.
ذلك كله غير معزول عن متغيرات خارج الولايات المتحدة، فصعود موجة اليمين الشعبوي في العديد من الدول الأوروبية هو على نحو ما متمم لصعود البوتينية، من حيث تحفز ذلك اليمين إلى الانقضاض على أسس الديموقراطية. البدء بمعاداة الأجانب والمهاجرين والعمل على تقييد قوانين اللجوء، أو العمل على سحب المكتسبات الاجتماعية مع كراهية معلنة للإعلام والنقابات، بالتزامن مع نزعة الانكفاء، هذه جميعاً تنال من النظام الديموقراطي داخلياً، ولا تخفي الميل إلى دعم نظم الاستبداد خارجياً.
بقليل من الحس المؤامراتي وأكثر منه واقعياً، يمكن القول إن مرحلة التبشير الديموقراطي كانت ملازمة للحرب الباردة، وكانت دول أوروبا الشرقية هي المعنية به في المقام الأول. مع انهيار المعسكر السوفياتي، تولت العولمة الصاعدة، اقتصادياً وفكرياً، مهمة التبشير الديموقراطي، وبدا كأن النزاع المقبل هو بين تيار العولمة وتيار العالمية. لن يكون من المصادفة أيضاً تراجع الديموقراطية داخلياً وخارجياً مع نزعة الانكفاء، وإذا كان انهيار جدار برلين آنذاك تدشيناً لعهد جديد، فإن لخروج إنكلترا من الاتحاد الأوروبي رمزية مضادة.
نحن للمرة الأولى، أمام أزمة تهدّد النظام الديموقراطي في معقله، وأبعد من أي وقت عن الثقة بمقولة «الديموقراطية تتكفل بإصلاح ذاتها». على السطح، يمكن أن يُرى ما يوحي رمزياً بانتصار «صراع الحضارات» لهنتنغتون على «نهاية التاريخ» لفوكوياما، لو أُمدّت ماكينة الصراعات الحالية بقليل من الوقود القِيَمي، أو ببعض من الثقة بأنها صراعات استراتيجية تؤسس لمستقبل ما.
ولو أتت هذه الأزمة قبل ثلاثة عقود أو عقدين، لربما سهُل التنظير لها ضمن موجة المابعديات، لكن ما يطالعنا اليوم من حديث عن «ما بعد الحقيقة» وعن «ما بعد الصحافة» لا يصل إلى إعلان وفاة الديموقراطية نفسها. ولعل توصيف «ما بعد الديموقراطية» يكون مغرياً لالتقاط ذلك التلاقي بين قوى تمثّل ما قبل الديموقراطية وأخرى تمثّل ما بعدها، وكنا سابقاً قد عايشنا لحظة تلاقٍ مماثلة بين قوى ما قبل حداثية وأخرى ما بعد حداثية. لقد رأينا مثلاً، كيف استُخدم النقد الغربي للمركزية الأوروبية، حين تلقفته لدينا قوى جلّ همها إقامة سواتر أمام الديموقراطية الغربية، وأيضاً حين تلقفه يمين غربي لا يرى الآخر جديراً بدخول عصر الحداثة.
ليس شأناً ثانوياً في هذا السياق إضعاف «الأمم المتحدة» إلى أقصى حد، وإذا كان مألوفاً سابقاً عدم اكتراث القوى العظمى بالقانون الدولي، فما حدث أخيراً يعبّر عن انسجام مفاده احتقار القوى الصاعدة القانونَ داخلياً وخارجياً، مع شهية مفتوحة لتدمير المؤسسات كافة التي لها رمزية أخلاقية أو إنسانية. هذا سياق متصل، يبدو أنه سيطاول العديد من المؤسسات الاقتصادية أيضاً مثل منظمة التجارة العالمية، أو البيئية مثل اتفاق باريس للمناخ، مع تلهّف لإسقاط مؤسسات راسخة ومتكاملة مثل الاتحاد الأوروبي الذي طالما نُظر إليه كنموذج واقعي عن الانفتاح والتعايش بين الأمم.
لقد كان من أشد اللحظات شؤماً في التاريخ المعاصر، أن تتقدم شعوب عربية لتطالب بالديموقراطية، في حين تتقدم قوى في المركز الديموقراطي للإجهاز عليها، أو على الأقل إعادة النظر في صلاحيتها. وبالتأكيد، سيكون في مثابة كابوس لا يُطاق أن نفيق يوماً ليُقال لنا أن زمن الديموقراطية ولّى، وأن النموذج الديموقراطي الواقعي قد صار في زمن ما بعد الديموقراطية. في الواقع، لا نفتقر في ربوعنا إلى من يتوقون إلى هذه اللحظة، بالقدر الذي نتوق فيه إلى الخلاص من الكابوس الحالي.
المصدر : الحياة